للحياة تاريخ وجودي فلسفي وأخلاقي منذ بواكير الحياة ووجودها، ولها قدسيتها وقيمتها الحقيقية، بل وتنوعها الثري، وللحياة فنون واشتعالات مثل فنون الحب واشتعالاته ترافق الإنسان تعليماً وسلوكاً منذ النشأة الأولى، والحياة عكس الجمود وعكس الفوضى وعكس التمرد وعكس النكوص وعكس السواد وعكس الظلام وعكس الضبابية ولا سبيل لتجريد الحياة من صورتها البهية، والحياة لها مصدر طاقة، وحيوية لون، ونبض حركة، وبهاء صور، وملامح حية، وشلال عطاء منذ أن أدرك الإنسان فضيلة الوقوف على قدمين وارتفاع قامته بمستوى الأفق، والحياة هي القدرة على النمو من خلال الاستقلاب والتكاثر، وهي القدرة على التكيف واستنشاق الهواء، والتعامل الفذ مع الماء والتربة والمعادن والمناخ والتضاريس والكائنات الأخرى، وبعكس هذه الأشياء لا تستحق الحياة شرف وصفها حياة، ولن تكون سوى شواهد قبور ملونة ليس تحتها إلا هياكل فارغة وبقايا ديدان، ومن غير ذلك أيضاً ستفقد الحياة دهشة الحسن والجمال ويكبر القبح والسواد.. إن الحياة مساحاتها كبيره وأطيافها واسعة تغطي قامة المادة والوجود، لكنها تصبح أكثر روعة حينما تصبح صورها البهية الندية مقدسة ومحترمة.. إن محاولة إسكات الحياة التكويني بأفعال خارجة عن قوانين الوجود المدهشة ودائرة معقولات الأشياء وتحويلها إلى تخوم الظلمة فيها من القتل والذبح والتدمير والإسكات والتهجير والإقصاء الشيء الكثير والبغيض.. إن غبار الفوضى الذي حرَّكه الإنسان الأناني البغيض، والجروح الغائرة التي تنزف هي خيانة عظمى لمفاهيم الحياة ومعانيها وقيمها وأعمال غير خصبة ليس بها حكمة ولا يُوجد بها تناغم مع حركة الصور الكلية للحياة.. إن أعداء الحياة أتلفوا الحياة وأهانوها، بتطرفهم الأحادي النظرة واعتدادهم الزائف بالقطبية، وتقديسهم ل (الأنا) الفردية على حساب ال (نحن) الجمعية.. إن أنهار الدم التي أراقوها على مذابح الاختلافات الفكرية والأيديولوجية والعقائدية وتحطيم الأرض والنبت والعمران شواهد حية على جرائمهم البشعة ووحشيتهم المدمرة، مكتسبين بجدارة شرعية وراثتهم لقابيل، حتى إن الغراب أصبح أكثر تفهماً وعقلاً وحرصاً وحكمة منهم عندما وارى سوأة هابيل.. إن الصلافة التي يرتكبونها في محاولتهم هدم الحياة وكسرها والتقليل من شأنها وتهميشها وتصغيرها يُعتبر ضرباً من الجنون والهلوسة.. إن هدمهم لذائقة الحياة هو تأسيس لتوابيت مليئة بالحصى والحسرات تزف إلى المقابر المفتوحة من خلال مسالك ضيقة لها متاهات رمادية مذهلة.. إن قيادة الناس إلى وديان الموت وتوقيف أنفاسهم وإغلاق منافذ السلام والدعة عنهم وزجّهم في أردية التراب وغشاوة السراديب وإخفاءهم تحت طيات السواد والعتمة وبث التراب فوق أجسادهم الزكية دون منحهم شموعاً وأبخرة ومياه ورد يعني مزيداً من الوحشية والظلمة الحالكة.. إنني أحاول أن أفهم، كيف يطيق هؤلاء الكائنات البشرية الصغيرة والضعيفة حمل جبال من الشرور والدماء والذنوب والخطايا والأوزار، كيف لا تتخثر دماؤهم وقد أصبحت مرتعاً موبوءاً بكل أنواع السموم، ولماذا يختارون أنفسهم ليقع عليهم أوزار إزهاق الأرواح والحياة؟.. قد يكون الجواب أن هؤلاء يقفون في المكان الخطأ والمرتكز الخطأ والفكر والعقل الخطأ ليس إلا.. إنني عاجز عن إدراك اللحظة التي يتحول فيها الإنسان من لسان ناطق إلى فعل قاتل، وعاجز عن تفسير تلك اللذة التي يستشعرها القاتل وهو يمارس فعل القتل ووحشيته ونتيجته، وكيف يصدرون حكم الإعدام موتاً على كل روح نابضة بالحياة ومتطلعة للنمو والاستطالة والفرح؟.. إنني أتساءل متى يدرك هؤلاء المجانين الشاحبون الجامدون الحكمة والعقل والاتزان وفن ذائقة الحياة؟.. يقيني أن القتلة لا يعرفون سر الحياة لأنهم لا يعرفون عذوبتها، فهم مشغولون ببويهمياتهم وعُقدهم النفسية التي ما فتئت تصرخ بهم حتى حولتهم إلى أدوات تتحرك نحو فضاءلت الذبح والفناء، خيالهم جزء لا يتجزأ من جنونهم القسري الذي فرضته عليهم هذه العُقد، ولأنهم غير قادرين على التماهي والذوبان في الحياة كبقية البشر فقد أفردوا لأنفسهم زوايا بعيدة ملؤها الصخب.. فكان فعل الهوس بكل هلوساته وقلقه وجنونه ومخاوفه.. ديدنهم رجم كل شيء حي ومتحرك.. إن قتلة الحياة يشبهون الشوك الذي يخرج من الشجر أو النبات ورغم عشوائيته إلا أنه يكون دقيقاً وصلباً حاداً وموجعاً كالإبر.. إن على هؤلاء السوداويين كارهي الحياة المندسين والمتاجرين بالدم.. إزاحة الغبار الفكري من عقولهم والعمل على تأسيس قيم جديدة عنوانها: الحياة القيّمة.