|
عمر الأسعد :
يمسك بيديه مجموعة من الخيوط، يشبكها ويحررها وكلها تفضي في النهاية إلى الفن، من الكاريكاتير كانت البداية إلى رسوم الأطفال المتحركة والتصميم الغرافيكي واليوم مع مشروع اللوحة.
كل هذه (الخيوط - الفنون) تقود إلى اسم الفنان التشكيلي السوري فارس قره بيت المولود في دمشق 1963، وقبل دخوله كلية الفنون الجميلة كان الكاريكاتير يستهويه فبدأ مشروعه وحيداً هاوياً، إلى أن انتقل للاحتراف في هذا المجال، وصار يرى فيه المكان الأنسب لما يريد التعبير عنه: «تطور إمكانيتي على التعبير هو ما شجعني للبقاء في هذا المجال».
الكاريكاتير ليس طرفة
يدافع قرة بيت الذي يحمل شهادة دكتوراه في فلسفة الفن منذ عام 1998 عن الكاريكاتوري ومن يرسمه من الفنانين، ويرى أنه في عالم متناقض إلى هذا الحد، وفي منطقة تنطوي على كثير من التناقض مثل منطقتنا العربية، يأتي الكاريكاتير في طليعة الفنون التي بإمكانها رصد هذا العالم وإظهار ما فيه عن طريق التضخيم، لكنه يؤكد على أن «الكاريكاتير ليس (نكتة) أي طرفة باللهجة السورية، بل يحمل فارقاً كبيراً يتجلى في الهدف، إذ ليس الإضحاك هدفه فقط».
لا تغيب قضية الحريات عن ذهن قره بيت، لكنه لا يربطها بشكل مباشر بالإبداع، فهو يرى أن الإبداع ينمو أحياناً حتى في ظل وجود القمع، ويستشهد على هذا بتميز تجارب كثير من رسامي الكاريكاتير في دول العالم الثالث التي تعاني من القمع .. يتوقف هنا قليلاً ... ثم يستطرد «نحن كفنانين نرسم الكاريكاتير، نشبه لاعبي الأكروبات في السيرك، لكن للأسف لا يوجد من يمسكنا إذا سقطنا!!!».
ليست الحريات السياسية فقط هي التي تواجه من يعمل في حقول الإبداع ضمن مجتمعاتنا، إنما يشكل المجتمع أيضاً عامل ضغطٍ عليهم، فيواجهون نوعين من الرقابة الدائمة المنقسمة إلى وجهين (سياسي واجتماعي)، ولا يوجد تبرير لهذه الرقابة إلا: «الخوف، فنحن نعيش في مجتمعات تعاني من الخوف، وهذا دليل ضعف، إنهم يخافون من أبسط الأشياء».
أحلام في الأدراج
عام 1998 شارك قره بيت في مهرجان القاهرة السينمائي، كما شارك في مهرجان الفيل الذهبي للرسوم المتحركة في الهند، فن الرسوم المتحركة هو خيط من الخيوط التي يمسكها بين يديه، لكن «هذا الحلم أخذ مني عيوني»، فحلم قره بيت الذي سرق جزءاً من عيونه، وأجبره على ارتداء نظارةٍ سميكة لم ينجح في نشر الرسوم المتحركة «رغم وجود 300 مليون عربي فيهم على الأقل 50 مليون طفل»، فكان يحلم أن يكون لدى الأطفال رسوم متحركة بنكهة عربية، وقصص عربية، وشخصيات وأبطال عرب أيضاً، لكن للأسف فشل المشروع لكثرة الوعود وقلة الجدية في الدعم، لذا أنام قره بيت مشروعه (كطفل)، ليس في السرير إنما في الأدراج، على أمل وجود دعم يناسب المشروع الضخم، الذي يراه قادراً على إخراج هذا الفن من دائرة المناسبات والمواسم التي يدور بها حالياً. كما يحمل ابتعاده عن هذا الفن خشيةً من المستقبل، خاصةً عندما يتذكر قصة الفنان السوري ممتاز البحرة، وهو واحدٌ من أهم الفنانين الذين كرّسوا حياتهم لرسومات الأطفال، لكنه اليوم يقيم في دار السعادة للمسنين؟! هكذا يطرح تساؤله: «هل أريد أن أذهب إلى دار السعادة؟!» يتبع هذا التساؤل ضحكةً ساخرة بمرارة.
اللوحة ... حلم مشتهى
خيط آخر، لكن ثناياه في يد قره بيت كما غيره، ( اللوحة) التي يعتبرها هاجسه الدائم، فهي توفر له «الذاتية والفردية»، كما لا يوفرها أي من الحقول الفنية الأخرى، لذلك سعى في عام 1992 إلى تقديم (دمشق) في مجموعة من اللوحات المائية، هذه المدينة التي قدمها كثيرون من الفنانين السوريين والعرب، ومن مختلف الأجيال، لا زال قره بيت يرى في عمارتها وأجوائها ما يستطيع البحث فيه والكشف عنه كي يقدمه للمتلقين، لذلك سعى إلى تقديمها بالمائيات ضمن مجموعةٍ نزعت نحو التجريد، وابتعدت عن التصوير الواقعي للمدينة.
من دمشق وعمارتها، انتقل عام 1996 إلى كليلة ودمنة، الكتاب الذي غدا جزءاً من تراث المنطقة، فرسمه ضمن معرض خاص في القاهرة، محاولاً طرح رؤيته الفنية الخاصة من خلال مجموعة حملت اسم الكتاب، إلى جانب تحميلها وجهة نظر شخصية لمحتوى الكتاب الذي يحمل قصةً إنسانية جرت على ألسنة الحيوانات في غابة متخيلة، أو ربما موجودة؟!.
الفنان الذي يحمل في رسومه الكاريكاتيرية الهموم السياسية والاجتماعية والاقتصادية للمواطن، لم يبتعد في مجموعة لوحاته الأخيرة عن الإنسان فقدم (بورتريه شخصياً)، والتي لم تأت لوحاتها بالمعنى التقليدي المعروف لكلمة بورتريه، إنما قدمت وجوهاً توحي بما في داخلها، لذلك غلب على وجوه المجموعة الصمت والوجوم، في محاولةٍ لخلق حوار بين المتلقي والعمل الذي أمامه، هذا الحوار قادر في كل مرة على أن يفضي إلى نتيجة مختلفة عن سابقتها، وزادته التجريدية التعبيرية الغالبة على وجوه المجموعة غنىً، لتتقاطع في اللوحة مجموعة من الأسئلة التي تحمل الإنسان ووجوده كواحد من همومها الأساسية، هذا الهم ليس ببعيد عن ذهن قره بيت أيضاً:» ما يهمني هو الإنسان هنا، وأنا في هذه المجموعة حاولت أن أقدمه كممثل عن معاناته الإنسانية في كل زمان ومكان».
لا ينسى قره بيت وهو الذي كان له تجارب مع عدد من الصحف العربية التي نشرت رسوماته أن يتحدث عن الفن في منطقة الخليج، فيأخذ على بعض رسامي الكاريكاتير الخليجيين: «إغراقهم في المحلية»، وهو ما يرى أنه يقف حائلاً أمام انتشارهم العربي، رغم تميز بعض تجاربهم وهنا يتوقف عند تجربة الفنان السعودي « عبد الله صايل المختلفة والمتميزة».
كما أنه يرى تطوراً ملموساً في السنوات الأخيرة في مجال الفن التشكيلي بوجهٍ عام، ويصف هذا التطور بأنه «مختلف، نظراً لوجود مؤسسات تدعم الفن التشكيلي، وهو ما يوفر تربة خصبة للعمل، قد لا تظهر نتائجها بشكل فوري، لكن خلال الأعوام القادمة أتوقع أن يكون هناك وضع مختلف على الأرض ويستحق التوقف عنده».