كل شيء، ما خلا الله، فالعبودية له ذل وقبح. وأشد العبودية هي عبودية العقول. ولذا كان الإيمان بالغيب هو الذي يرفع المؤمن إلى درجة الإحسان إذا عبد الله وكأنه يراه. وقد تخلصت المجتمعات المعاصرة من عبودية الأجسام ولكنها فشلت في التخلص من عبودية العقول.
كنت طالباً عسكرياً لم أبلغ العشرين عندما قادنا مدرب المساحة إلى رأس جبل نرصد نجوم السماء فنحدد مواقعنا ومسارنا على الأرض. فوصف لنا نجماً في الجنوب وطلب منا ترائيه بالمناظير، فلم أره فأخذ يساعدني لكي أراه ولكنني لم أستطع فقال لي «أنت بليد ميئوس منك». وفي اليوم الثاني وأثناء الدرس النظري أخذ يشرح لنا كيف أن النجم ينتقل من الجنوب إلى الشمال خلال فصول العام وكان يعتمد الأشهر القمرية. فسألته، إن كانت الأشهر القمرية تتغير مواقعها خلال رحلتها بين الشتاء والصيف، فما كان منه إلا أن أخرج الجدول الذي أعطاه إياه المدرب الأمريكي قبل عقود زمنية وفيه مقابلة الشهور القمرية بالشهور الشمسية في تلك السنة. فلما رأيت شهرنا الشمسي الذي كنا فيه فإذا بالنجم في ذلك الفصل الشتوي يقع في الشمال بينما كان هو يرينا إياه في الجنوب، ولذا لم أره. فظن أنني أشاغبه فحنق علي، فتخلصت من حنقه الذي تولد عن ممانعته بأن قلت له «الله أعلم» فرد علي متحدياً «يوم بان الصحيح الله أعلم؟ هه الله أعلم»، وما زال بعض زملائي الذين شهدوا الموقف آنذاك يحييني بهذه العبارة إلى اليوم إذا لقيني.
مئات من الطلبة اجتازوا تلك المادة خلال عشر سنين -على الأقل- وكان النجم فيها في الشمال وهم يرونه في الجنوب. وما ذاك إلا لتأجير العقول إما للمدرب أو لرهبة مخالفة الجماعة أو للوهم أو صمتاً خوفاً من إظهار الجهل. في هذه الحادثة تظهر خطورة التقليد دون اعتبار تغير المعطيات كما تتضح فيه بالمثال عبودية العقول التي هي موضوع اليوم.
هذه القصة تتكرر يومياً آلاف المرات في بلادنا على المستوى العام في اللجان الحكومية والخاصة وفي الاجتماعات والعروض وفي قاعات المحاضرات في الجامعات وفي الجلسات البرلمانية أو الوزارية وهي تتكرر أيضاً على المستوى الشخصي في تلقي الفرد للأخبار والإشاعات والآراء وللفتاوى الشرعية.
في مجتمعاتنا العربية والإسلامية ترخص العقول فيها كما رُخص فيها الإنسان، ولذا يكثر تأجير العقول فيها مما يُبقي هذه المجتمعات في العالم الثالث. كلما ارتقى المجتمع ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً كلما حرص أفراده على تعليم أبنائهم على تحدي الأطروحات التي تُلقى عليهم، في شتى مجالات الحياة، فكرياً ومنطقياً. ولهذا تنموا مجتمعاتهم وتتطور وتُصحح أخطاؤها وتتعلم بسرعة. وإثبات هذا بالتجربة هين سهل، فما على المرء إلا أن يمارس هذا مع موظفيه أو أعضاء لجنته أو طلبته ويشجعهم على تحديه علمياً ومنطقياً وسيجد أنهم جميعهم سيتعلمون سريعاً وتشتعل فيهم نار الحماسة وتظهر الأخطاء وتُصحح سريعاً فينموا العمل وتتطور المنظمة ويمتاز الطلبة، وكيف لا وقد تحرروا من عبودية العقول.
وعودة إلى مدرب المساحة المذكور آنفاً، فقد كان خيراً من كثير من العلماء والمسؤولين المرموقين وأساتذة الجامعات وكبار الإعلاميين. فقد عاد بعد يوم واعترف أمام المجموعة بقوله «الظاهر إن وراك علم» وتخلى عن ممانعته وصحح معلوماته. وفي رسالة الفاروق لأبي موسى الأشعري - رضي الله عنهما: «لا يمنعك قضاء قضيته اليوم راجعت فيه نفسك، وهديت فيه لرشدك أن تراجع فيه الحق، فإن الحق جديد لا يبلى، ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل».
الدين هو الخلفية المحركة للفكر ولثقافة بمفهومهما الشامل والعام في بلاد المسلمين، لذا فإن مما سكت عنه، لو أن العلماء الشرعيين اتبعوا منهج تحرير العقول وشجعوا الناس على تحدي الآراء الفقهية العتيقة بالكتاب والسنة وأصول الفقه وقبلوا الاعتراف بالخطأ، لتجدد الفقه ولنشروا ثقافة تحرير العقول في المجتمعات الإسلامية ولوضعوا الأمة على بدايات عصر جديد من حرية الفكر الذي يقود الأمم إلى التقدم والتطور والتجديد في جميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية.