في الشمال شتاء... وللشتاء حضور ولحضوره سطوة وسياط.
وفي ذاكرة الليل صور تستعاد كلما أطل الشتاء من نافذة الزمن ونصب خيامه في صحراء العطش وطالت يده كل أخضر مورق... والتهمت (أم عابس) كل أخضر ويابس..
الشتاء هنا... كر وفر.. مقبل مدبر... لكنه هنا معنا... يقتات منا.. كل صبر وتجلد.. تذكرت امرئ القيس وبيت من معلقته يقول:
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي
لصبح وما بالإصباح منك بأمثل
قبل أن يحتضننا ليل الشتاء وصفعاته الموجعة بصقيعها.. قبل أن يأخذنا من دفئنا تنهمر سحابة من صقيع تسابق رذاذ المطر على الطريق الطويل... طريق شيع سواده مئات الأرواح... جان بلا جناية... قاتل بلا قضية.. كانت تلك القطرات أدمعي... ووقعها على الأرض آهاتي والطريق المنهك يستمتع برفات أحبتي وهم يُحملون على النعوش.
الطريق المتعب... الشاحب هو وجهي... وحالته حالتي..
أخذني ألم الطريق وعذابي وقلقي وتوجسي من صوت عجلات المركبة ليحملني صوت هيّض مواجعي كي تذرف سحب الدمع وتسقي الأوجان التي ملّت البكاء..
الصوت الحزين يسرق صفاءك... يحدث فيك ربكة... يقيِّد عواطفك وأحاسيسك.. يصحبك كيفما تكون وأين تكون..
صوت فيروز يشخص ألمك... يرافقك في ليلك الشتائي الطويل.. مثلما هو يبعث الأمل في بواكير صباحاتك ويسرقك من انطوائيتك ووحدتك.. يزرع الفرح وإن كانت أدمعك ماء سقيا لنبتة الفرح التي لن تدوم خضرتها. فيروز تغني والليل والشتاء والغربة والدار والحنين. تخرجك من دفء المواقد وأنس جدار الطين والأدخنة تغرس في ذاكرة الليل صورة لشتاء يجثم بسطوته... وذاكرة تفيض بصور وصور.
((من يوم تغربنا وقلبي عم بيلم جراح
ياريتا بتخلص هالغربه تا قلبي يرتاح
ياريت منرجع نتلاقى وتفرح فينا الدار
وقلوب اللي كانت مشتاقه لا تحن ولا تغار)).
حين تقول فيروز:
((أنا خوفي من عتم الليل والليل حرامي...
يا حبيبي تعا قبل الليل ويا عيني لا تنامي)).
تأمل... سكون يلبس الليل وقار... خوف تلده العتمة..
لكنه الطريق الطويل... والشتاء الضيف الثقيل وفيروز ربما من تؤنسك... تدثرك كي تشعرك بأن الشتاء فصل للبرد والصقيع والمطر.. الرعد والبرق... والريح التي تدق الأبواب بعنف... تقرع النوافذ والليل الغارق في الصمت.. ومصافحة حبات البرد والمطر لجدران الطين.
تردد مع فيروز:
((تكتب اسمك يا حبيبي على رمل الطريق)).... وأنا أقول سألون بحمرة دمك لون الطريق... وتشدو:
((بكرة بتشتي الدنيا على القلوب المجرحة)).. فهل جرح القلب يحتاج لشتاء كي يدمله؟؟؟
في ليل الشمال... شتاء لا ينقضي... وليل الشتاء طويل طويل... وصقيعه (يبكي الحصني) ويعري الأشجار الواقفة ويسرق الدفء من قلوب دفأها جمر الغضا.
تنسى الأسماء وتنسى الحوادث والطريق باق يترصدنا... والسجل لم تكتمل صفحاته... لكن الجراح والذكريات موجعة وإن تقادمت عليها الأيام.
شتاؤنا له ذكرياته... بين ذاكرة الألم وفسحة الأمل.. له صفعاته وصفحاته... يأخذنا إلى البعيد... إلى حيث المتعة والأنس والسمر حيث لم يكن طريق... يوئد الفرح ويقتل الأنس... الشتاء فصل من فصول العام... ليس فصلا للبرد والصقيع والمطر والليالي الغارقة في صمت وسكون وتباكي الأغصان من سطوته.
إنه تأمل... وفيه ليل يقتات الساعات.. حيث يحلو الكلام... وتنسج من الحكايات أحلام وآمال وانتظار وأرق وقلق.
أنسه... في الإنصات لصوت الهطل حين يباغتنا ليلا دون ترقب... دون أرصاد تنبئنا... دون إنترنت يبلغنا... إنهم ينتظرون القطر من رب رحيم.... يبتهلون له كل حين... يضرعون ويتضرعون في كل لحظة. تساقط حبات المطر يسقي الروح فرحاً... يعطر الجسد ويغسل القلوب والأجساد... طقطقة النار حين تلتهم أعواد الحطب... والمطر له إيقاع حين يلثم النوافذ... حين يغتسل الليل الحالم... وتستيقظ الذاكرة حين يؤنسها الفرح بالمطر... تلامس خبايا النفس... تتأمل الليل والفضاء يلبسه الغيم معطف.
أقف بجوار نافذة تغتسل برذاذ المطر... أطالع التل والغيمة تلامس هامته... تدفق هطلها.... كتحدر دمعة حرّى على رحيل عزيز...
الليل والشتاء والشمال حكاية لها طقوسها... لها صورتها... حكايات الجدات وهن يقصصن في لمة حول المواقد... يقطعن الليل بحكايات تشنف الآذان لها... ينصت الحضور بشغف كي يعرفون نهاية الحكاية التي ربما تكون مؤلمة... فتختلط دموع البكاء مع دموع تُذرف من أدخنة الغضا. إنصات لريح صر... وصوت الجدة وهي تمطمط (السالفة) كي يأنس الصغار فيغطون في سبات ليخلو الجو من أصواتهم وصراخهم.
إنه الشتاء... رغم سطوته... إلا أننا نحبه حين يحمل لنا ليله سحب خير تسقي مرابعنا ومفالينا... نكون أكثر إشراقاً... أكثر فرحاً... من ليلة لا تحمل إلا الصقيع والريح وصفير النوافذ.
ليل شتاؤنا يعطينا فرصة الاستمتاع بالقهوة والشاي والحليب والزنجبيل ويمارس طقوسه كيفما أراد.. كما يشتهي... صحبتنا للمواقد تشيع فينا الدفء رغم مرارات الطريق... رغم مواجعه التي لا تنام...
نحب الشتاء رغم قساوته... لأننا ننتظر الربيع الذي طال انتظارنا له... لنقرأ بدر شاكر السياب في شتائه:
وكأنما قوس السحاب وقد بدا
أوتار قيثارة مضت تتنادم
فتقاربت حتى يعاود عزفها
روح الأنامل بالملاحن عالم
هذا الشتاء فأوسعوه تحية
فوراءه إن الربيع لقادم.