بدأت تظهر تداعيات اقتصادية في أمريكا بعد انتخابات التجديد النصفي للكونجرس وفوز الجمهوريين بالأغلبية، إذ لم يعد بيد الرئيس أوباما من أدوات للتعامل مع الأزمات الاقتصادية إلا أدوات «السياسة النقدية» التي لا تتطلب إقراراً من الكونجرس، وأصبحت أدوات «السياسة المالية» ذات التأثير الأقوى والتي تعرضه لمشاكسات وتنازلات للجمهوريين قد تفضي لضعف فرصته في تجديد انتخابه. تتراوح أدوات السياسة النقدية التي يضعها وينفذها «بنك الاحتياط الفدرالي» بين تخفيض أسعار الفائدة وبين ضخ كميات جديدة من النقود. وقد دفع أوباما خلال الأيام القليلة الماضية بنك الاحتياط الفدرالي إلى تبني سياسة جديدة أطلق عليها خطة «التيسير الكمي» Quantitative Easing، ويبدو أنها أقصى ما يمكن لأوباما فعله من أجل تنشيط الاقتصاد الأمريكي الذي يعاني من دورة كساد راهنة. لم يعد أمام الاحتياطي الفيدرالي بعد أن خفض سعر الفائدة إلى ما يقرب من الصفر إلا طرح كميات جديدة من النقود في الأسواق، وهي ما تمثّل جوهر سياسة التيسير الكمي. وتتمثّل خطة الاحتياطي الفيدرالي في ذلك في شراء ما يقرب من 600 بليون دولار من سندات الخزانة الأمريكية (متوسطة الأجل) من حائزيها، وبالتالي ضخ دولارات جديدة في الأسواق باعتبارها ثمناً لهذه السندات. الأصل أنه عندما تواجه الحكومات عجزاً في الميزانية فإنها تطرح أذون خزانة قصيرة الأجل أو سندات حكومية متوسطة وطويلة الأجل في الأسواق المالية لتمويل عجز الميزانية من ثمن هذه الأوراق المالية، ففي هذه الحالة نجد أن المشترين لهذه الأوراق يستثمرون جزءاً من مدخراتهم للاستثمار فيها، وهو ما يعني تمويل عجز الميزانية من مدخرات حقيقية في الاقتصاد، وبمعنى آخر ادخار سلبي في مالية الحكومة يمول من ادخار حقيقي للأفراد والمؤسسات المالية، وبالتالي تقل الأموال المتاحة لهؤلاء المشترين للإنفاق في غير هذا المجال، وهذا الأسلوب يكون بعيداً كل البعد عن إحداث آثار تضخمية لعدم تغيّر كمية النقود الدائرة في شرايين الاقتصاد. بالطبع لم يعد أوباما قادراً على اتباع هذا الأسلوب لسببين: تعدي المديونية الحكومية خطوط الأمان، وتطلب ذلك الموافقة الصعبة، بل شبه المستحيلة من الجمهوريين المهيمنين على الكونجرس. وهنا قام الاحتياطي الفيدرالي بعملية الشراء، والاحتياطي الفيدرالي ليست لديه مدخرات يدفعها مقابلاً لهذه السندات الحكومية، وإنما لديه مطبعة تطبع مزيداً من النقود، وهو ما يؤدي إلى زيادة كمية النقود في الاقتصاد، وما لذلك من آثار تضخمية في المستقبل. ليت الأمر يقتصر على حدود الولايات المتحدة الأمريكية، فموجة التضخم هذه ستطول بلا شك الاقتصاد العالمي. فمعظم حاملي السندات الحكومية الأمريكية التي اشتراها الاحتياطي الأمريكي غير أمريكيين سواء حكومات أو شركات أو أفراد، وبالتالي فإن هذه السياسة ستؤدي إلى زيادة المعروض من الدولارات في الاقتصاد العالمي وهو ما سيؤدي إلى خفض قيمة الدولار وحدوث آثار تضخمية على الاقتصاد العالمي. يبدو أن الحاجة أصبحت ماسة للرجوع لأفكار «كينز»، فقد أكَّد منذ حوالي ثمانين عاماً أن «السياسة النقدية» وحدها لا تكفي لكسر حلقة الكساد، ولا بد من استخدام «السياسة المالية» من خلال سياسة للإنفاق الحكومي، وأخرج لنا تحليله المتضمن مبدأي المضاعف والمعجل. أُقدر أن أوباما لا يجهل هذا النداء من كينز، ولكنه لا يمتلك القدرة على الاستجابة، وفي الوقت نفسه لا يمتلك القدرة على الحركة، وإن تحرك فهي حركة لا تسمن ولا تغني من جوع. إن خيارات أوباما الاقتصادية حالياً وإلى نهاية ولايته أصبحت محدودة للغاية، والمتاح لديه من خيارات قد لا تحمد عقباه.
أستاذ الاقتصاد والمالية العامة المساعد - جامعة شقراء -
redaelmanci@yahoo.com