لا يزال الفكر الديني يجد صعوبة في التعامل مع حدود السلطة، وهل ممارستها بإطلاق ضد العامة يدخل ضمن مقاصد الدين الحنيف، أم أن إلزامها بحدود وتشريعات تحفظ حقوق المواطنين يكفله الشرع ويجب الأخذ به، أم أن واقع الأمر ليس له علاقة بالدين، لكنها طبائع لها علاقة بالمجتمع وتقاليده البدائية، ويظهر ذلك السلوك بوضوح في تعامل بعض السلطات بتعسف بالغ مع المواطن، وكان ظاهراً بوضوح في ثنايا الحوار الذي تم نشره في جريدة الوئام الإلكترونية بين مواطن سعودي ورجل الهيئة في مدينة عنيزة.
لا تختص الهيئة فقط بالتعامل المفرط بنفوذ السلطة، ولكن أيضاً يتضح ذلك في معاملات بعض رجال السلطات الأخرى مع المواطن في الشارع، وقد أستطيع اختزال هذه العلاقات غير المتكافئة في مجتمعنا في ثنائية بعداها الشك والمطاردة، ومضمونها كلمات مشبعة بروح السلطة التي تملك الحرية المطلقة للتصرف بدون أي احترام لحقوق الإنسان، فعل سبيل المثال يستطيع رجل الهيئة مطاردة المواطن وإيقافه بسبب شكوك، ثم على المواطن أن يقوم بعد ذلك بجهد بالغ ليطفئ شكوك رجل الهيئة، وهكذا، وينطبق ذلك على غير ذلك ممن يعتقد بامتلاكه لتلك السلطة المجردة.
حسب رأيي تظهر هذه التصرفات السلطوية اللامحدودة بين أفراده لأنها جزء من مكونات المجتمع، ومرتبطة بموروثه الثقافي، كذلك تحكم البيئة بقسوتها في كثير من الأحيان سلوك الإنسان، لذلك أصبحت علاقات السلطة لا المصالح تسيطر على علاقات ووسائل التواصل بين الناس، فتجدها في المدرسة والسوق والجامعة وإدارة المؤسسات وفي مختلف المستويات والآفاق في المجتمع، وجاء موروث الاجتهاد الديني في تقديس السلطة المطلقة، ليضيف البعد التشريعي للتطرف في ممارستها باسم الدين.
كان القرن الثاني والثالث الهجري مسرحاً للحوار الكبير بين فئات المجتمع الإسلامي آنذاك، وكان الحوار يدور حول قضايا العدل وحرية الاختيار التي منحها الله عز وجل للإنسان، مقابل السلطات المطلقة التي يتصرف بها الخالق كيفما يريد، وقد ظهر ذلك فيما بعد في الحوارات حول صفات الذات الإلهية بين المعتزلة والأشاعرة، كانت نتيجتها انتصار لمبدأ السلطة والمشيئة المطلقة لله عز وجل مقابل حرية الاختيار والعدالة الإلهية، لكن الإنسان أساء فهم ذلك البعد، وبدلاً من أن تكون خاصة لله عز وجل، طوعها الإنسان العربي، لتكون تشريعاًَ لحكم السلطة المطلقة، وذلك عندما قدم نفسه بصفته الخليفة لله عز وجل ليس في عمارة الأرض، ولكن في الحكم المطلق للناس، كان من أهم فصولها بعد ذلك خروج جماعة الموقعين عن رب العالمين، وكان ذلك بمثابة نهاية مرحلة وبدء أخرى.
مهّد هذا الإعلان لبدء مرحلة الوصاية والسلطة المطلقة، والتي تتصف بوجود أقلية تملك السلطة غير المحدودة لإحكام سلوك وإخضاع تصرفات الرعاع، وبذلك تم إجهاض كل محاولات الفكر العقلاني الإسلامي لممانعة احتكار السلطة المطلقة في فئة، وبالتالي فقد العرب المسلمون فرصة انتصارهم الحضاري في تلك الأزمنة، ولتعود المجتمعات الإسلامية إلى حالة التشرذم والتقوقع والانعزال عن العالم الخارجي، كان من أهم إفرازاتها خلو كتب الفقه الإسلامي من مفاهيم حقوق الإنسان والقانون.
نعيش في زمن مختلف يعتقد أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، ويضع حدودا قانونية تحمي المواطن والمتهم من النفوذ والإجراءات التعسفية، وذلك من أجل وضع حدود يقف عندها رجل السلطة، وأرى أننا نواجه صعوبة أولاً في فهم هذه المعادلة غير المتكافئة وآثارها السلبية على سلوك الإنسان وقيمه وتعاونه، وثانياً في غياب أي حراك يمهد لتطوير هذه العلاقة المضطربة بين المواطن ورجل السلطة مهما كان موقعه، لكن ذلك لا يعني عدم وجود محاولات للدولة في استقدام بعض المفاهيم الحديثة في القانون وحقوق الإنسان ونظام المرافعات، لكنها لا زالت تصطدم بنفوذ ثقافة السلطة غير المحدودة بالقوانين والتشريعات.
لذلك أجد أن المسؤولين يواجهون تحديات في غاية الصعوبة والأهمية في آن واحد، ويجب أن يكون دافعاً لتطوير الأنظمة الإدارية والقانونية، ولوضع حدود قانونية ضد الاستخدام المفرط للسلطة في المجتمع، فما يحدث من حوادث وأخبار عن ذلك الإفراط يزيد من علاقات وسلوك العنف بين أفراد المجتمع، كما أن مفهوم إخضاع العامة والرعاع للسلطة بالقوة تجاوزها الزمن، ولم يعد صالحاً في عصر القانون والحقوق الإنسانية.