في مقالتي، الأسبوع الماضي، تَحدَّثت عن استمرار التخاذل عن مناصرة الحق؛ وذلك في الكلام عما جرى ويجري، أو ما ارتُكِب ويُرتَكَب، في سوريا المبتلاة المنكوبة من مجازر وحشية مُتنوِّعة، وجرائم فظيعة امتدّت إلى انتهاك الأعراض. وكان مما أشرتُ إليه في تلك المقالة موقف الأمين العام للجامعة العربية،
وهو الموقف الذي أقلُّ ما يمكن أن يقال عنه: إنه موقف المتخاذل تخاذلاً يمكن أن يُعدُّ مُشجِّعاً للنظام السوري؛ وبخاصة في بدايات تعامل ذلك الأمين مع أحداث سوريا. على أنّ تطوُّر الأحداث - في نظري - تجاوزته هو وموقفه، وأصبح ما هو جدير بالكلام موقف السيد كوفي عنان، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، الذي بات الجميع يَتحدَّثون عن خطّته وتطبيقها.
للأُمناء العامين في المنظمّات الدولية - وفي طليعتها الأمم المتحدة بمجلس الأمن التابع لها - أدوارهم التي تدلُّ على شخصياتهم؛ مُؤثِّرة أو غير مُؤثِّرة، مناصرة للحق أو متخاذلة عن مناصرته. وكان من المشهود لهم من أولئك بالكفاءة - حسب معرفة كاتب هذه السطور المحدودة - همرشلد وفالدهايم. وربما كان نُبل الأول منهما هو الذي أدَّى إلى وفاته التي لم تَتَّضح ملابساتها. أما الثاني؛ وهو فالدهايم، فلو لم يكن من الأدلَّة على نبله إلاّ إظهار الصهاينة أعداء الإنسانية عداوتهم له لكفى. وكان من الذين تولَّوا الأمانة العامة للأمم المتحدة بطرس غالي، الذي اتَّضح سوء موقفه المتخاذل تجاه قضية البوسنة والهرسك، التي تحيى ذكرى مجازرها الرهيبة هذه الأيام؛ متزامنة مع ارتكاب المجازر الفظيعة في سوريا الآن، ومتشابهة لها في تخاذل من كان يجب عدم تخاذلهم تجاهها، وفي فظاعة مجازرها. وكنت قد عَبَّرت عن ذلك التخاذل، الذي يرقى إلى درجة التواطؤ، في أبيات منها:
وجرائم الأعداء تبدو عندها
أفعال هولاكو أَعفَّ وأرحما
ومُفسِّر القانون وفق مزاجه
يرنو أَصمَّ إلى الجرائم أبكما
ويمارس التسويف خطة بارع
حتى يُراق دم البريء ويُعدَما
ما كان أسرعه ليردع ظالماً
لو لم يك المظلوم شعباً مسلما
وعَبَّرت عن موقف الأمين العام للأمم المتحدة حينذاك بأبيات منها:
لو أن شعب سراييفو وقادتها
من اليهود تَلظَّى بطرس غضبا
و أُرسِل الجيش تلو الجيش منتقماً
ممن طغى واستباح العرض واغتصبا
هو الأمين .. وهل تخفى مناقبه
وهو الذي لرضا أرحامه كسبا
سعى إلى المنصب العالي ففاز به
من يحسن الظن قد لا يدرك السببا
وكان ممن تَولَّوا الأمانة العامة للأمم المتحدة السيد كوفي عنان. وليس المقام، هنا، مقام الحديث عن أدائه حين تَولِّيه تلك الأمانة؛ سلباً أو إيجاباً، إنما الحديث حول موقفه الآن في إطار تعامله مع ما سُمِّي بخطّة عنان حول ما يجري في سوريا. كان المؤَّمل أن يكون مناصراً للحق. لكنه أخلف الظن وخنق الأمل فيه. ذلك أنه لم يقف مع الحق؛ بل إنه لم يقف موقف المحايد بين الحق وضده، فيكون أشبه بكاتم الشهادة، وإنما وقف موقفاً أشبه بموقف شاهد الزور المنحاز مع القتلة وأعوانهم. فبعد أن تَبنَّى مجلس الأمن ما سُمِّي بخطّته المكوَّنة من ستة بنود لم يبد منه إلاّ ما يتيح فرصة تلو أخرى لمرتكبي المجازر الشنيعة كي يواصلوا تنفيذ ارتكاب مجازرهم. وكان في تلك الخطة أساساً ما فيها - أو عليها، من مآخذ وضعف وعدم وضوح. ومن ذلك أنها اكتفت بسحب القوات الثقيلة من المدن، مع أنّ الجميع يرون أنّ انسحابها لا يُؤثِّر على مرتكبي القتل والتدمير. ذلك أنّ الانسحاب من أوساط المدن والبلدات لا يحول دون قصفها وتدميرها بالمدافع والصواريخ والطائرات الحربية. وهذا ما هو واضح للجميع عبر وسائل الإعلام المختلفة.
على أنّ خطّة عنان فشلت. لكنه مع ذلك لم يُوضِّح للعالم - إبراءً لذمّته - من هم الذين أفشلوها. وفي ظِلِّ تلك الخطة، التي يرى البعض أنها وُلِدت ميتة، ظَلَّ ارتكاب المجازر على أيدي كتائب النظام وشبّيحته يزداد فظاعة وهَمَجيَّة. وظَلَّ المراقبون المُتربِّصون بتلك الخطة يقفون موقف المُتفرِّج على تلك المجازر من بعيد في أغلب الأحيان. وظَلَّ هو فاشلاً في الإعلان عن الجانب المستحق للتجريم والمعاقبة. بل إنه ظَلَّ لا يُسمَع منه إلاّ زيادة ضَخٍّ من مخزون تصريحات ممجوجة فارغة المعنى فاقدة الدلالة عن قلقه.
قد يفهم من يريد التحوُّط في رصد مواقف السيد عنان السلبية تجاه المسؤولية المنوطة به بشأن ما يحدث في سوريا، عدم حضوره مؤتمر أصدقاء سوريا على أساس أنهم الواقفون مع الهَبَّة الشعبية في تلك البلاد، التي كانت سلمية منادية بالحرية والعدالة. لكن من غير المفهوم إطلاقاً، الفاضح سوءاً، أن يَظلَّ يصف المجازر، التي يعلم هو - كما يعلم غيره - أنّ المرتكب لها هم رجال الحكم في سوريا وأعوانهم.. يَظلُّ يصفها - في أغلب الأحيان - بتعبير مُغلَّف المعنى هو “ العنف “ دون أن يذكر بأنّ الهَبَّة الشعبية كانت سلمية الطابع والتحرُك طوال ستة شهور، رغم ممارسة الظلمة ارتكاب المجازر ضد تلك الهَبَّة السلمية، قبل أن يضطر ذوو الغيرة الوطنية إلى اللجوء إلى السلاح ذوداً عن أبناء وطنهم وبناته.
والسيد كوفي عنان، المفترض فيه مناصرة الحق، أو الوقوف على الحياد في أَقلِّ الأحوال، برهن - مع الأسف الشديد - على انحيازه إلى جانب الظالم وأعوانه. ومن ذلك أنه اختار موقفاً مُتعنِّتاً. فبعد أن ذهب إلى دمشق، وطمأن - فيما يبدو - رجال النظام السوري هناك على موقفه، ذهب إلى طهران مُصمِّماً على أن يكون لها دور يجب أن يراعى تجاه ما يجري في سوريا. وهو يعلم - كما يعلم غيره - أنّ من غير الممكن التفريق بين موقف النظام في سوريا وموقف النظام في إيران. فالنظام الإيراني مع النظام السوري؛ قلباً وقالباً، ومُؤيِّد له كل التأييد؛ معنوياً وسياسياً ومادياً وتسليحياً. ومن طهران أبى عنان أن يلوي عنان فرسه قبل أن يَمرَّ ببغداد. وهو يعلم - كما يعلم غيره - أنّ الحكم في العراق خاضع، بدرجة كبيرة، لنفوذ النظام في إيران. بل إنه أداة من أدواته؛ لا سيما في دعم النظام في سوريا بكل ما يستطيع. ولم يكتف بذلك؛ بل إنه ذاهب إلى موسكو. وليس من المعلوم ما يمكن أن يقوم به هناك. لكن من المُرجَّح جداً أنه لن يحتج على إرسال زعماء روسيا الأسلحة التي يستخدمها النظام السوري في ارتكاب جرائمه ضد خصومه في بلاد الشام المنكوبة، أو يستنكر وقوف أولئك الزعماء في المحافل الدولية مع ذلك النظام المرتكب لتلك الجرائم.
ليس من المعلوم ما إذا كان السيد كوفي عنان بعد مجزرة تريمسة، التي ارتكبت فجر يوم الخميس الماضي، هل بقي لديه شيء من مخزون تصريحاته الممجوجة فاقدة المعنى عن موقفه؛ سواء عَبَّر عن قلقه أو طوَّر هذا التعبير إلى استنكار؟
وماذا عن الدول التي لها مكانة مُؤثِّرة في ميزان القوة في العالم؟
إذا كان موقف زعماء روسيا واضح التأييد للنظام السوري؛ سياسياً وتسليحياً، فاضح العداوة للشعب المبتلى بجرائم ذلك النظام، فإنّ مما شجَّعهم على اتِّخاذ ذلك الموقف - في نظر كاتب هذه السطور المحدود - اطمئنانهم إلى أنّ زعيمة الغرب بالذات.. الولايات المتحدة الأمريكية.. غير جادة في اتِّخاذ موقف غير متخاذل - إن لم يكن متواطئاً - للحيلولة دون إنصاف المظلوم من الظالم. وفي نظره، أيضاً، أنّ موقف أمريكا المتخاذل - إنْ لم يكن متواطئاً - ناتج بدرجةٍ ما عن موقف الكيان الصهيوني، الذي قد لا يبدو علنياً، غير المطمئن إلى تغيير نظام ظَلَّت جبهته معه هادئة طوال أربعة عقود، وهو قادر على أن يقوم داخل ترابه بما شاء دون عقاب، كما حدث في ضربه المختبر الذي ادَّعى أنه لإنتاج أسلحة دمار شامل، وذهب ذلك الاعتداء برداً وسلاماً عليه. وقوف الدول المُؤثِّرة في ميزان القوة العالمية موقفاً غير جاد أو حازم تجاه ما يُرتكَب في سوريا من مجازر شنيعة، يرقى إلى أن يوصف بالتواطؤ مع مرتكبي تلك المجازر على ارتكابها. قد تستيقظ ضمائر زعماء تلك الدول المُؤثِّرة بعد أن تصحو على مدى فظاعة تلك المجازر - كما حدث في قضية البوسنا والهرسك -، لكن ذلك الاستيقاظ سيكون بعد أن يتم تدمير سوريا؛ إنساناً وبنية أساسية، وهو ما يَصبُّ في مصلحة الكيان الصهيوني ويتمناه. على أنّ الأمل قويٌّ في نصر الله ثم في تصميم الشعب السوري العظيم على الصبر والصمود حتى يتم له ذلك النصر.