الحقيقة أنه رغم ظرفي الصحي الموجع الذي جعلني في الأسابيع الماضية الأخيرة بمنأى جبري عن الكتابة, إلا أن طائر الكلمة المعلق في عنقي والعشق الولهي لتراب الوطن أشعل قناديل قلقي وخرب محاولتي للانسحاب المؤقت لريثما تبرأ جروحي ويجبر كسري.
لابد أن تقض مضجع كل من لديه ذرة من العقلانية والمسؤولية خطورة ما هو أبعد من ظرفية الحدث الذي تناقلته الأخبار بشتى وسائلها القديمة والحديثة مما جري علي أرض الواقع من حوادث بالمجتمع السعودي هذه الأيام.
فهذه الحوادث وأعني تحديداً حادثة المطاردة التي أدت إلى فتنة القتل جهة القلب وحادثة التأجيج الطائفي جهة النحر من روح وجسد هذا الوطن, تضعنا جميعاً دولةً وشعباً في مهب امتحان جلل أمام قضيتين خطيرتين من قضايا الضمير الوطني والفردي وهما قضيتا العدل والأمن.
وسأتناول كلاً من الحادثتين تناولاً لا يخلو من الاختصار الذي أرجو ألا يكون مخلاً بما تستحقه كل منهما من اهتمام يشير إلى أبعد من ظاهر الحدث، وما يفرضه كل منهما من ضرورة قصوى لقرع الجرس ودق الصهريج لوضع قوانين تحمي الوطن دولة ومجتمعاً من تحول ما يبدو مجرد شرر إلى حريق ماحق وإلى شر مستطير يلحق حتى بمن يظنون أنهم يستطيعون الاعتصام بجبل أو جمل في الداخل أو الخارج.
واقتصر اليوم على محاولة تحليل حادثة واحدة على أن أعود للثانية بأسرع وقت.
فحادثة تعرض أسرة بأسرها أب وأم وأطفال للملاحقة وتعريض كل نفس منهم لخطر القتل على ذمة وسوسة الشك القهري بالمواطنين وبنواياهم، لا يخفي ولا يخفف وقوعها على أفراد أسرة واحدة من أبناء الوطن وقع ما تبثه وما تحتمله من خلق حالة ترويع عامة باحتمال الوقوع تحت طائلة خطر مشابه لأي كان. فالحادث بقدر ما هو مصاب إنساني فادح على مستوى ما ألحقه من ضرر بواح بأسرة كاملة, فإنه مصاب وطني لا يقل فداحة على مستوى ما يلحقه من زعزعة لأمن الوطن باسم الحفاظ على الأمن أو استعراض عضلات قوة الجهة التي قامت بالملاحقة بما يؤدي إليه من مخافات بين المواطنين، وكأننا نعيش حالة إعلان الطوارئ على مستوى الدولة، بما ينجم عن ذلك من تهديد بانتهاك أمن المواطن وحرمته في نفسه وفي الأساسيات الأولية لحقوقه كإنسان. فحين يصبح المواطن مشبوهاً ومتهماً وموضوعاً لريبة سلطات تعطي لنفسها صفة العصمة وتتخذ من سلطة الأمن غطاء لها فإن ذلك لا يخل بأمن المواطن فقط بل يخل بميزان العدل وبميزان الأمن اللذين هما من أهم أركان استقرار الدول والسلم الاجتماعي.
نعلم أنه قد تجري محاولة تخفيف المصاب بالترضيات أو بالاعتذار أو بطلب الصفحة عند المقدرة وحيث أن العفو من شيم الكرام فقد يجري التنازل عن الحق الخاص في القضية ولكن هل يمكن وهل يكفي الاعتذار لرد الاعتبار للحق العام الذي جرى إهداره في وضح النهار؟.. وهل في لملمة الجراح ومسح دمها بقمصان أو بشوت حفنة من الأفراد كافية لضمان عدم تكرار الإخلال بميزان الأمن والعدل لوطن وشعبه بأكمله؟.. هل التعامل مع أو التعامي عن مثل هذه الحوادث وقد تكررت على أنها ليست إلا نتاج حماقات فردية أو سوء تقدير ممن قاموا بالملاحقة تعفي أو تعمي عن النظر إلى الموضوع في إطاره الموضوعي، حيث لا تأتي هذه التصرفات من فراغ ولا تصدر عن مجرد اجتهاد فردي، بل هي على الأرجح ومن تجارب المجتمعات لا تصدر إلا نتيجة عقلية وصائية وتربية بوليسية ومخابرتيه وتفتيشية على ضمائر الناس مع إعطاء سلطتها صفات قدسية كسلطة الدين أو حمية المُلك، وإن أدى الأمر إلى الإخلال بالأمن باسم الأمن.
لهذا وأكثر فإن العلاج في اجتهادي وليس كل اجتهاد مصيب, لا يكون بالتعامل مع مثل هذه الحوادث كمجرد حوادث فردية يدفع فيها ببعض القرابين (من الأفراد) إلى مذبح الإعلام، فتنام ضمائر وتتطيب خواطر إلى حين تظهر حوادث أخرى تؤدي مثل ما سبقها إلى دق مسمار جديد في نعش أمن المواطن. وفي هذا لابد من مواجهة مع الذات الوطنية إن صح التعبير, وبحضور الضمير الوطني من جميع أطياف القوى الاجتماعية لمعالجة الأساس والبنية السياسية والاجتماعية التي تنتج مثل هذه العلاقات اللا سوية والخالية من المساواة في التعامل بين المواطن وبين القائمين على الأمن بتحديد صفتهم ووظيفتهم وإقامة هذه العلاقة على أسس قانونية واضحة لا تسمح بانتهاك أمن المواطن وأمن الوطن باسم الحفاظ على تصورات وصائية ووسواسية تخل بالمعنى الحقيقي للأمن.
أما حادث التأجيج الطائفي ومخاطره الوطنية على اللحمة الوطنية وعلى ميزان الأمن والعدل فأتركه لأهميته لموضوع مستقل بذاته الأسبوع المقبل بإذن الله.
Fowziyaat@hotmail.com