ازدهرت الحضارة الإسلامية في العصر الذهبي للدولة العباسية، فأصبحت بغداد عاصمة العالم المتحضر، وتزامنت معها غرناطة وقرطبة فأصبحتا محجة للأوربيين، نهلوا منها علوم العرب وثقافتهم، ثم تعددت العلوم وتنوعت وبدأ سبر ما وراء المرئي، وبات علماء العرب في الطب والكيمياء والرياضيات والطبيعة (الفيزياء) والفلك والفلسفة، هؤلاء العلماء كانوا يتحدثون عن أشياء لا يعرفها العامة، وينتجون مواد غير مألوفة، فاختلط على الناس ماهية تلك العلوم، أهي سحر أم استخدام للجن أم استعانة بالشيطان؟! فجعل العوام يقصدون فقهاء الدين مستفسرين عن تلك العلوم ومشروعيتها. جهل فقهائهم بحقيقة تلك العلوم جعلهم يتفقون على تحريمها وأنها رجس من عمل الشيطان. وقاد هذا التوجه كبار الأئمة، مثل بو حامد الغزالي وابن تيمية وابن القيم، فكفروا المتعاطي بتلك العلوم ورموا كثيراً منهم بالزندقة، واعتبروها سحراً وهرطقة واستخداماً للشياطين، فتجنبها الناس صناعة وتجارة. وهكذا ولج المسلمون عصر الانحطاط الحضاري وباتت بلادهم نهباً لمن تعلم منهم كيف يهزمهم.
منذ أسابيع توصل علماء الفيزياء لاكتشاف (جسيم هيغز) وهو اكتشاف يقود لتحقيق نظريات تتعلق بالوجود والكون، وكما عهدنا الفقهاء عند حدوث اختراق علمي للمحجوب، من تشكيك ونفي وربما تكفير من يعتقد أو يقول بهذا، وهكذا يصبح العلم وأربابه متهماً بمحاربة الله والتعدي على علمه الذي أستأثر به لنفسه.
منذ الأزل والفقهاء في شريعتنا ورجال الدين في شريعة الآخرين يقفون أمام الاختراقات العلمية مناوئين ومكذبين أو مشككين، يسوقون حججاً قالها أسلافهم، معظمها مبنية على أن هناك علماً اختصه الله لنفسه، فلم ولن يتاح للبشر علمه، وأن محاولة استكشافه هو تطاول على إرادة الله وعمل يدخل في باب الهرطقة والزندقة والسحر واستخدام الشياطين، لذا كفَّروا من قال إن الأرض كروية وتدور، ثم ادعوا أن الكهرباء واستخداماتها ضرب من عمل الشياطين، وكذبوا الهبوط على سطح القمر، وعند استحداث تقنية التلقيح خارج الرحم قالوا إن هذا عبث بخلق الله، ثم قالوا عندما نجحت عملية استنساخ النعجة دولي، إن هذا تأله وولوج أمر محظور. هؤلاء بما يقولون يقفون للعلم وتقدمه، ويعيقون الناس من الاستفادة مما أتاح الله لهم من علم، وقد غاب عن عقولهم أن أي علم يكتسبه الإنسان لم يكن إلا بإرادة الله، فمن المستحيل أن يكتسب الإنسان علماً اختصه الله لنفسه، لذا فكل ما يكتشفه الإنسان فهو علم متاح لمعرفة البشر قدره الله في أزل خلقه. ونحن لا نعلم كم من العلم أتاح الله لنا اكتسابه، وكم من العلم اختصه لنفسه، لذا ما علينا سوى البحث والجد في معرفة المزيد، وكل علم نحوزه فهو حق للبشر في كل علم وكل مجال.
معظم الحضارات السابقة ازدهرت لوجود دعم اجتماعي وفكري لعوامل نموها، وأهم تلك العوامل هو العلم اكتسابه وصناعته، وعندما تبلغ الحضارة أوجها يحدث خوف جماعي لدى العامة الذين أصبحوا أنصاف متعلمين بحكم شيوع المعرفة، فيقلقون من تنامي الشعور بالقدرة على الواقع والتحكم بالحياة فتنتشر أفكار تدعو للتوقف عن مزيد من العلوم خوفاً من ولوج نطاق المقدس المحظور، وينمو الشعور بالذنب واستحقاق العذاب، ويقود هذا التوجه رجال الدين الذين يكتسبون مزيداً من الاهتمام على حساب أرباب العلوم الطبيعية، فينبذ المجتمع تلك العلوم ويدخل عصر انحطاط لحضارته خوفاً من تنامي قدرته. هذا ما حدث للمسلمين في عصور الانحطاط، لذا لا نريد أن يحدث هذا لامتنا مرة ثانية، فقط لأن فقيهاً لم يستطع أن يستوعب العلوم.
mindsbeat@mail.comTwitter @mmabalkhail