«إنها (سوسة) جميلة»، قالها لي أحد أساتذتي في الجامعة حين قابلته في المكتبة بعد أن رأى كثرة مقتنياتي من الصحف والمجلات الثقافية، وقالها لي آخر حين رآني أحمل ديوان المتنبي الضخم بشرح البرقوقي، وكنت أنتظر بدء المحاضرة، وأنا وإن كنت ألهث تحت ثقل حجمه إلا أنها كانت وسيلة لإغراء طالباتي بالقراءة، ولا يبدو أنها أفلحت! ومن ثم قال: لو أخذت لهن الديوان على قرص مدمج لكان الأمر أسهل في الحركة..حينها شعرت بالخوف: هل حقا سيأتي زمن لا نجد فيه هذه المجلدات وستغدو رفوف المكتبات حافلة بالأقراص المضغوطة؟ ينتابني هذا الشعور بعدم الأمان كلما سمعت من يقول إن العالم قريبا سيقول وداعا للورق كوسيط بيننا وبين المعرفة، لتحل محله شاشات الكومبيوتر أو أجهزة القراءة الذكية.
ما زال ولائي -مثل الكثيرين- للورق حتى على صعيد الجرائد اليومية، وإن كانت في أغلب الأحيان تتحول إلى أداة لتلميع المرايا، وللحق فنتائجها مذهلة فعلا! ما زالت رائحة الحبر والورق تستثير حواس الكثيرين وتغري بالتهام المادة المطبوعة، ما يؤلف العلاقة الحميمة بين القارئ والورق وتتشكل في عادات تتبعها ألبرتو مانجويل في كتابه «تاريخ القراءة»، وتتكون لكل منا طقوس يمارسها عند القراءة ربما كان أهمها التواصل مع الكتاب بوضع علامات تحت الجمل التي تستوقفنا، أو تلك التي تثير استيهاماتنا، كلها تنسج ذكريات لنا مع الكتاب حتى وإن كانت بقعة قهوة مسكوبة على طرف الصفحة! في حين أن ذلك كله يفتقد مع الكتاب الإلكتروني برغم ميزاته العديدة التي تظهر في سهولة حمل آلاف الكتب بأقل الأوزان، وسهولة البحث بل حتى اختصار المساحات التي قد تحتاج إليها الكتب الورقية.
وتشير الإحصاءات إلى تزايد الإقبال على الكتاب الإلكتروني، فقد أدى التطور المطرد للوسائط الإلكترونية خلال العقدين الأخيرين إلى التنبؤ بازدياد الطلب على الكتب الإلكترونية خلال الخمسين سنة القادمة، وكذلك تبين الإحصاءات أن الذين ما زالوا يتمسكون بالكتب الورقية هم من فئات عمرية محددة تتراوح بين 40 و50 سنة بحسب أحد مسؤولي دور النشر العربية، وذلك يعود لعدم اعتيادهم استخدام وسائل الاتصال الحديثة.
يسكن الهلع في النفوس حين تظهر دراسات مطمئنة ببقاء الكتاب أو العالم الورقي ما بقي الإنسان، من مثل اعتراف جورج لاندو بأن الكثيرين ينفرون من القراءة على شاشة الكومبيوتر ويفضلون طباعة المعلومات لقراءتها بالطريقة التقليدية على الورق أو «الذاكرة النباتية» على حد وصف إمبرتو إيكو الروائي والمفكر الإيطالي الذي يرى أن معبد الذاكرة النباتية ما زال له مريدوه، على عكس ما يردده البعض من انكماش مجرة جوتنبرج «المطبعة» مقابل مجرته الثانية وهو ما قام به مايكل هارت عام 1971فيما أسماه مشروع جوتنبرج لنشر الكتب ذات الملكية العامة إلكترونيا لجعلها في متناول اليد للجميع، وسيبقى الكتاب الورقي يمارس طقوس السحر والفتنة «المشروعة».
برغم كل «الرقمية» التي تحيط بنا، ما زال كثير منا يؤمن باستحالة اختفاء الكتب والصحف الورقية أمام نظيرتها الإلكترونية، وأن الكتاب الورقي سيظل سيد الموقف ولن يستطيع نظيره أن يزاحمه في مكانته وعرشه، وسيظل الذهب دوما بحاجة إلى النخالة على حد تعبير أمي!