قبل أيام قلائل، أشرقت أنوار السماء، وتضامن معها هديرُ الحناجر تكبيراً وتهليلاً احتفاءً بحلول شهر الخيرات.. رمضان المبارك، الذي جعل الله أولَه رحمةً، وأوسَطه مغفرةً، وآخرَه عتقاً من النار.
- ولهذا الشهر الكريم منزلةٌ وجدانيةٌ خاصة في قلب كل من حسُن إيمانه، لأنه يشعر فيه بنفحة من الإيمان تعمر خاطره وتشده إلى خالقه، يخالط ذلك رغبةٌ عميقة في استثمار أيام وليالي هذا الشهر الكريم تقرُّباً إلى الله، وطمعاً في مغفرته ورضوانه، وتحصيناً لسلوكه من المفاسد والخطايا، ما ظهر منها وما بطن.
- ورمضان موسمٌ روحي عظيم، لـ(صيانة) النفوس الملوثة بأدران الدنيا وإحباطاتها، المادي منها والمعنوي، وإعادةِ ترتيب (بيت المؤمن) الشخصي والعائلي والاجتماعي، عبر ممارسة الصيام، عباداتٍ ومعاملاتٍ وأسلوب حياة، وهذا سرُّ المقولة الحكيمة بأن رمضان ليس هجْراً فحسب للطعام والشراب والشهوات، من مولد الفجر حتى غروب الشمس كل يوم من أيام الشهر الكريم، وإنما هو (إمساك) عن كل ما يُؤْذي المرءَ قولاً باللسان أو عملاً بالجَوارح، ومَنْ أحسن استثمار هذا الشهر الكريم في كل ما يرضي الله سبحانه ورسوله الكريم، صياماً وصلاةً وصدقةً وعملاً صالحاً أوله وأوسطه وآخره، خَرج منه بإذن الله نقْياً طاهراً كيومَ ولدتْهُ أمه!
- ولرمضَانَ في خاطري حزمةٌ من الذكريات لم يسْطُ عليها النسيان بعد، خاصة عبر مرحلة الطفولة في رُبَى عسير الخضراء! كنتُ آنئذٍ أعيش فرحة العيد القادم منذ أول يوم فيه، لاقترانه بـ(الثوب الجديد) ولوازمه، ناهيك بمباهج الفرح الأخرى بعيداً عن متاعب رعي الغنم، أو سقيا الزرع، أو حماية (عناقيد) المحصول الزراعي من سطوة الطير!
- وأتذكّر في هذا السياق موقفاً طريفاً للعم عبدالله بن حبتر، رحمه الله، أحد المزارعين المجاورين لأملاك جدي (لأمي) طيّب الله ثراهما، وكان مقرّباً من جدي كثيراً، وكان (خفيف الظل) عذب اللسان سريع الحركة، رغم تقدّم سنه، وأذكر أنني كنتُ أشاركُه أحياناً مهمةَ (قرع) الطير من اقتحام حقوله، عبر الصوت و(المرجمة) أو (قاذفة (الصواريخ) الحجرية) على تجمعات الطير، وكان ينهرُها بأعلى صوته قائلاً (يا طير تراها سعودية من شبع فيقوم)، يقصدُ مخَاطباً فلولُ الطير الجائعة (لا تطيلوا التجوال عبر المزرعة، ومن نَال منكم غايتَه شبعاً فليحق برفاقه بعيداً عنا)! ثم يلتفت إلى مبتسماً كعادته، فأردد مقولته - رحمه الله- إنذاراً للطير المستتر في مزرعة جدي غفر الله لهما، مستخدماً (أسلحة الدمار الشامل) ذاتها!!
- أما أهم الذكريات الرمضانية وأنداها وأكثرها التصاقاً بوجداني فهي تلك التي كانت تجمعني بسيدتي الوالدة، رضوان الله عليها في أواخر رمضان، مروراً بفرحة العيد، وكان ذلك خلال الفترة التي تلت عودتي من أمريكا مبتعثاً، وكنت أحرص كل عام على الانتقال من الرياض إلى مقر (ست الحبايب) في أبها بدءاً في الغالب من يوم السابع والعشرين من رمضان، لأشاركها مباهجَ الأيام الأخيرة من الشهر الكريم وأيام العيد السعيد، كنَتُ أسْعدُ بأحاديث أمي الحبيبة وأفْرحُ باصْطِحَابِها على مَتْن سيَّارتي كل أصيل في نزهاتٍ ريفية قصيرةٍ قبل الإفطار، أو بعدَ صَلاةِ الفَجْر أحياناً، كنْتُ أحدَّثُها وتحدّثُني عن ذكرياتٍ زمن مضى.. معَها وبَعيداً عنها، وكنتُ أتعمَّد ذكِرَ مواقفَ فيها من الطَّرافَةِ ما يُدْخِلُ السّرُورَ إلى نفسِها، فَتضْحَكَ رحمها الله وأبتسِمُ أنا فَرَحاً بضِحْكِها، ثم تَختمُ هي الحَديثَ بدُعاءٍ لي صَادرٍ من أعماقِ الأُمومةِ السَّاميةِ، حيث تقول: (الله يُعْلِي حظَّك يا ولدي على كلَّ حظَّ)، فأدعوُ لها بدَوْري بالصَّحةِ وطول العُمْر والسَّعادةِ في الداريْن! وكنت أشعرُ في تلك اللحظة بنَشْوةِ فرحٍ يُؤَطَّرهُ الحبُّ، وأنعمُ بدُعائِها لي.. الذي لا ينْضُبُ له معينٌ، ولذا، أشْعرُ الآن أنّني افْتقَدُ في رمضان، رغْمَ قُدْسيّتِه نشوةً عاطفيةً أثيرةً على نفسي ساكنةً في وجْدانِي، كانت أمي مستقرها ومقامها، بدءاً ونهاية!
قبل الوداع:
- هنا، قد يسألني بعد هذا الحديث سائل: ما الفرق إذن بين رمضان (الأمس) ورمضان (اليوم) فأقول: هو كالفرق بين ظمأ الطفل البريء عبدالرحمن الذي لم يكمل بعد عقده الأول، حين (أطفأه) ذات يوم من ذات رمضان بشربة ماء بمنزل جده في غفلة من العيون، وشوقي اليوم ترقباً لسحاب الفرح القادم أطفئ بقطراته (ظمأ) الحنين إلى ما كان مقارنة بنوائب هذا الزمان!