يُطالب بعض طلبة العلم الديني وأتباع الحركات الإسلامية الكتّاب والمثقفين بأن يمتنعوا عن نقد الفكر الديني أو التعليق على فتاوي وآراء علماء الدين، على طريقة كل يتحدث في تخصصه، وهم بذلك يلغون الشأن العام، ويضعون الخطوط الحمراء ضد العقل والفكر الإنساني، ولو طبقنا ذلك لأصبحنا في دائرة الكهنوت، وفصل الدين عن الدنيا، وقد حفل تاريخ أوروبا بتحريم معارضة الكنيسة إلى أن وصل الأمر إلى إلغائها تماماً عن المجتمع.
ولو استعرضنا تاريخ المملكة في الصراع بين الفكر الديني والثقافي، لأدركنا حجم تأثير الثقافة على تغيير بعض المواقف الحادة والمتطرفة لبعض علماء الدين، وقد كان الوضع مرشحاً لدخول عالم الكهنوت لولا الحراك الثقافي في المجتمع، ومع ذلك لا زال الطريق طويلا تجاه إصلاح الفكر الديني، وتطويعه لخدمة الإنسان وحاجاته الدنيوية، لأن النقد وتصحيح وتلاقح الأفكار ظاهرة صحية مهمتها الرئيسية الحد من اتساع الفجوة بين الفكر الديني وبين العلم والناس، ويأتي سبب هذه الفجوة أن معظم علماء الدين ينظرون إلى مشكلات العصر من خلال عقول القرون الوسطى، ولا زال أغلبهم يرفض مسايرة التطور الإنساني، بينما يقدم الفكر الإنساني حلولا حديثة لمشكلات العصر، والحل لا يكون بالقطيعة، ولكن بالتوفيق بين التراث والحداثة.
في الفكر الإنساني يوجد رأي عام وفكر متخصص، ويحق لأصحاب الرأي تناول قضايا العصر وتأثيرات نتائج الفكر المتخصص على المجتمع، لكن لا يجوز لهم أن يقدموا أنفسهم كمتخصصين في الشريعة أو غيرها من نواحي العلم الحديث ما لم يكونوا قادرين علمياً على ذلك، لكن يظل للعقل والفكر الإنساني حق تقديم الرؤية العامة والنقد المنهجي للأفكار والآراء والفتاوى بصفة العموم، من خلال تقديم الرأي العام عن تأثيرات نتائج الأبحاث المتخصصة على المجتمع.
تعرض المجتمع السعودي إلى أزمات جاء معظمها من التطرف الديني، كان آخرها الإرهاب والتفجير، وكان للثقافة دور رئيسي لكشف حجم المتناقضات في هذا الفكر، بعد أن عجز علماء الشريعة في تحديد الموقف منها، وذلك عندما توقفوا في بادئ الأمر عن تعريف ذلك السلوك الإجرامي، فتارة قالوا خوارج، وفي تارة أخرى نعتوهم بالضالين عن الطريق الصحيح، وكان الحل المناصحة، وذلك لإخراجهم عن دائرة الجريمة، برغم من أن أفعالهم تدخل في الجريمة بكل شروطها، وقد كان للفكر والثقافة دور كبير في انحسار هذا الفكر المتطرف.
في التجربة المصرية دليل على ذلك، فقد تراجعت جماعات التكفير عن مواقفها بسبب قوة عمق ومتانة الفكر والثقافة في المجتمع المصري، كان آخر تلك التحولات خروج الفكر السلفي والإخواني من الانغلاق إلى الانفتاح على الفكر الإنساني، وقبول التعددية والديموقراطية، ولو مُنع انتقاد الفكر الديني لظل متحجراً وأسيراً للعنف والإرهاب والفكر الدموي، ويحمل المستقبل مفاجآت على وزن ما حدث في تركيا، فتحولات الفكر الديني السياسي في تركيا يُضرب بها المثل، بل أصبحت منارا يهتدي به قادة الفكر السياسي في العالم الإسلامي.
تعتبر الثقافة روح المجتمع والشعلة التي لا تهدأ، ولا يمكن لأي مجتمع أن يتطور بدون حرية للفكر، وأعتقد أن المجتمع السعودي يمر في هذه السنوات في تجربة غنية بالفكر الإنساني، وإذا كانت الثمانينيات والتسعينيات الميلادية زمن الصحوة الدينية، فإن العقد الأول من القرن الجديد هو زمن الثقافة، ويظهر ذلك في الازدحام الشديد الذي تشهده معارض الكتاب في الرياض، وقد أصبح لكل شخص منبر، يقدم فيه رأيه ويتفاعل مع الأحداث، ومع ذلك لازالت هذه القفزة تعد مرحلة في بداياتها إن قورنت بالمجتمعات العربية الأخرى، لكنها تعتبر على أي حال حراكا ثقافيا فعّالا ستكون له نتائجه في المستقبل، ومنها دخول عصر التعددية، و أفول عصر الحقيقة المطلقة، ودخلوها في النسبية في أكثر نواحي الحياة.