متى يأتي بيت العمر؟.. وما هيئته ؟ وبأي حال يكون صاحب هذا الحلم؟.. وبيت العمر هذا لا يشبه بأي حال بيت الشَّعر أو بيت القصيد، إنما هو منزل بأدنى المواصفات، وبأقل التكاليف.. عُشّ يرتب فيه أي رجل محدود الدخل أوراق أحلامه، ويمايز فيه شأن أسرته.. بل حتى وإن جار الزمان وتحول البيت الحلم إلى مجرد “شقة” بأقساط يقال عنها: إنها ستنتهي بالتمليك، أو قطعة أرض في مكان ما يحمل دلالات المستقبل البعيد جداً، أو انتظار تساهيل القرض. فقد لا يطول انتظار المواطن للقرض العقاري من الدولة كما كان في السابق، إلا أنه قد يصطدم بمعوق كبير يتمثل في عدم توفر الأرض المناسبة، لأسباب كثيرة، منها ندرة المخططات المشمولة بالخدمات، أو التخطيط المتكامل، أو ارتفاع أسعار الأراضي بشكل جنوني، مما قد يتسبب في مأزق تعذر حيازة القرض دون قدرة على تأمين الأرض.
فكرة طريفة تترجم حالة اليأس من هذه المعوقات في بناء بيت العمر اتبعها أحد الشباب وهو متزوج ولديه أطفال حينما يأس من أن يحقق الحلم الموعود بانتظار القرض والأرض معاً، تتمثل في أنه بات يتنقل في شقق الإيجار من حي إلى حي، معللاً الذات بمطاردة حلم البحث عن مكان مناسب لحلمه المنشود المتمثل بأرض مناسبة وقرض يغطي تكاليف البناء.
يقول ذلك الشاب المرتحل من مكان إلى آخر: إنه يستأجر أي شقة، ولا يقيم فيها أكثر من عامين، فهو لا يلبث إلا أن يشد الرحال عن هذا الحي الذي قطنه إلى آخر يقيم فيه لكن على وجل.. لأنه لا يلبث إلا أن يلملم متاعه ويعاود الرحيل.
مبرراته الأولية والمعلنة في مداومة هذا التنقل أنه يعلل النفس بالبحث عن المكان المناسب والحي المكتمل بالخدمات والجيران الطيبين، أما باقي الحجج والذرائع فإنها تتوزع على هاجس مقلق وحيرة واضحة وهروب لا بد منه حينما يتصور أنه سيقضي العمر في رحلة البحث عن مجهول السكن الذي يراه بعيد المنال!!
لا يمتلك هذا الرجل أي أثاث أو أدوات أو كماليات.. فقط حقائب ومتاع شخصي له ولعائلته وكأنه مسافر، فهو يستأجر الشقق المكتملة في أثاثها، لأن تخلصه من فكرة الفك والتركيب والشحن والتنزيل فيها ما يغريه لمواصلة تغيير المسكن من حي إلى آخر.
يُقرُّ هذا الشاب أنه لو تعب، أو شعر بالألم، أو جأر الأطفال وأمهم بالشكوى فإنه في وارد فكره أشد انكفاءً وتراجعاً عن طموح بيت العمر المزعوم، تتمثل في إزماعه العودة إلى منابته الأولى “بيت الوالد”، أو “دار المرحوم” بعد استدرار الورثة، أو وعدهم بمال أي قرض سيأتي.
فالبيت الشعبي المسلح والمتهالك سيكون هو الملاذ الجديد، وهو محطته الأخيرة من عناء التطواف بين الأحياء.. فسيقيم - حسب زعمه - في أسفله ويؤجر بعض الغرف على سطحه لعمال أو عزاب، ليسد بعض أفاه تتناهشه بطلب القسط والقرض وإرجاع السلف وما سواها من محاولات رتق الفارق بينه وبين حياة أليمة وشاقة.
أما إن كان هذا الشاب محظوظاً في انتظاره وحاز القرض والأرض فإن المنغص الأول هو أنه لم يعد بيت العمر إنما بيت آخر العمر، أو ملاذ اللحظات الأخيرة بعد سني التعب واللهاث وتراكم الأقساط.
hrbda2000@hotmail.com