كل الأحداث الجسام التي هزت أركان العالم وهددت البشرية كانت عبارة عن القشة التي قصمت ظهر البعير، وتبدو لنا أحياناً أسباباً غير موضوعية لردة الفعل القاسية متجاوزة كل فرضيات قوانين
نيوتن التي تكاملت في مبدأ لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومعاكس له في الاتجاه، وهذا العنف يتفجر في النفس البشرية حينما تصل إلى حد المرونة على حد تعريف الفيزيائيين لهذا المصطلح، وذلك في قولهم إن الزنبرك يمد في كل مرة بقوة ما ثم يعود لسابق عهده ولكن حينما تسلط عليه قوة أكبر فإنه لا يعود لأنه فقدَ حد المرونة فيتحول إلى أشبه بسلك مستقيم لا يحمل تلك الخصائص المرنة لتفرز لنا معطيات المرحلة محصلة لا تخلو من تراكمات سياسية واقتصادية واجتماعية لم تدرك خطرها نخب تدير تلك المشاهد، ولو أنهم التفتوا قليلاً إلى الوراء لوقفوا على حجم الكارثة الإنسانية والتي قد تكون بسبب بسيط تجاهلوه بحجة تفاهته في حين أن الواقع أثبت قول علماء الطبيعة: “قد ترف فراشة بجناحيها الصغيرين فوق طوكيو ويتسبب ذلك بإعصار فوق الكاريبي”.
فتداعيات الحركات الفيزيائية في الهواء المتدافعة شيئاً فشيئاً تتجمع لتدفع موجات هائلة كانت بحاجة لأي قوة صغيرة تحركها باتجاه الأمام لتدمر كل شيء وتعصف بكل ما تمر به، وهذا يؤكد عدم ضبط تناسب الفعل وردة الفعل في كثير من الحوادث والمجريات، وقد أكد التاريخ الإنساني ذلك بامتياز، فحرب البسوس بين حيي وائل بكر وتغلب لم تكن بسبب قتل ناقة لعجوز شمطاء تُدعى سحاب، وحرب داحس والغبراء لم تكن بسبب سباق في مضمار بين فرسين لعبس وذبيان، ولا يمكن لقراءة صحيحة للأحداث وأسبابها الحقيقية وإرهاصات انفجارها في تلك الحروب أن تتجرد من الظلم الاجتماعي والضغط الهائل والقسر الجمعي من قبل طرف على طرف آخر حتى انفجر عند هذا السبب التافه، وليسوا العرب فقط ممن ابتلوا بهذا، فخطف امرأة اسمها هيلانا تسبب في حروب طروادة وإنزال ألف سفينة إلى الماء في التاريخ القديم وقتل رجل في البوسنة تسبب في الحرب العالمية الثانية في التاريخ الحديث، فالمرأة والرجل راح ضحيتهما ملايين الرجال والنساء، والظاهرة التي يجب أن تستحضرها النخب في علاج داء المجتمعات المزمن أن الضعفاء من أي طائفة أو حزب أو إقليم أو قبيلة تجدهم يتكتلون في منظومات نفسية دون الآخرين ويجمعهم شعور جمعي سيحولهم في المستقبل عن طريق العاطفة إلى كتلة واحدة وأن اختلفت مشاربهم وربما يزيد عدد أفرادها حسب كل مرحلة وبخاصة في ظل عدم ضبط حجم الظلم الواقع على بعض الأفراد الذين يرون أن النظام والقانون ظلم لهم لأنهم ينطلقون من قانونهم الخاص وكل ما عداه ظلم في رأيهم وكل رغباتهم يجب أن تحقق وإن تعارضت مع نص القانون فالقانون وتطبيقاته ظلم في تفسيرهم الشخصي.
نعم المخلصون لا يقرءون ردات فعل الشعوب بطريقة خاطئة، ولا يعني عدم حصولها أنها لن تحصل ولكنها تنتظر قشة تقصم ظهر المجتمع بأسره وليس البعير الشارد، المخلصون في أي مرحلة من مراحل التاريخ الإنساني لا ينظرون إلى الأحداث بعين واحدة تضع في ملفاتها ماذا يريد النظام السائد فقط، وأولى أولياتهم أن يفهموه أن المهمة صلاحيات ومسؤوليات وأن قضاء حاجات الشعوب مهمة مقدسة وأن يستحضروا ما فعل بهذه الشعوب على مدى قرون ليتم علاج ما يمكن علاجه استدفاعاً للكارثة والإعصار، المخلصون يرون أن الحراك طبيعة إنسانية والاستقرار هو الموات فالمقابر وحدها هي التي لا تسمع فيها صوتاً ولا ضجيجاً ولا حراكاً، ومن أجل المهمات أن يديروا المشهد بأنفسم وأن يراقبوه ليكون إيجابياً للأرض والإنسان والكائنات على السواء لأن مظاهر الحياة من حوار وجدل وضجيج حيوية وضرورة حتمية رغم الأخطاء التي تكتنفها، ولا يمكن تعطيلها بحجة الخوف من نتائجها ويجب توجيهها لتكون في جلب المصلحة ودرء المفسدة حتى تتخلص الأمة من المغامرين الذين يستولون على مفاصلها ويسيطرون على أعلى قمتها مع ساعات الفجر الأولى ليصدروا بياناتهم الأولى في لحظة من لحظات السبات الشعبي، ثم يكتشف ذلك الشعب المتاجرة بقضاياه ولا يستطيع المواطن في بعض البلاد أن يُبدئ ملحوظاته لأن الأبواب مقفلة تماماً والدهاليز غامضة والكارثة التي ولّدت كل هذا الاحتقان أن النخب الدينية والسياسية تدرك أنها لن تستطيع نصح القذافي ولا بشار ولا صدام وممن على شاكلتهم نصيحة سرية، فكتموا كالمرجل الذي انفجر لأنهم اقتنعوا أن تلك النصيحة قد تكون سبباً في إعدامك واستئصالك من جذورك مما أحدث فجوة بين القيادات وشعوبها فتعطلت التنمية والبناء وغاب الحوار والمشاركة الوطنية وأصبحت تقتنص الفرص للتخلص من هذه الحالة الذهنية المخيفة، فالقضية أكبر من وائل غنيم وشباب الفيس بوك وأشد كارثية من حرق البوعزيزي، وأقسى مشهداً من طفل سوري يمزق قميصه في وجه دبابة وشبيح مسلح، فذلك الطفل لم يكن همه إنهاء سياسة القطب الواحد ولا إيقاف صعود نجم الصين ولا رفع شأن الاقتصاد الأوروبي المنهار، وذلك البوعزيزي الجائع لم يكن ينتظر الجمهورية الرابعة أو الثالثة أو الخامسة وتغيير نُظُم الحكم والدستور والانتخابات وعودة مصطلحات المحكمة الدستورية، وشخصيات العمل الحزبي المعارض إلى الساحة السياسية من جديد، والذي لا يمكن تجاهله أنه كان فيلباب الثالوث الأسود باختصار الجوع والمرض والجهل، ليسطر بقصته العربية ما لم تسطره روايات عالمية عن الجوع من طراز ما كتبه جورج آمادو وفي بلد كانت تُسمى عند العرب خضراء تونس مما شجع بنو هلال على الهجرة إليها في القرون الغابرة ليمنح تلك الأرض دروساً في جغرافيا الجوع وتضاريسه الصفراء على امتداد القارات ويختزل بملحمته ما لم تختزله قصيدة من أبيات قليلة لشاعر مثل جاك بريفير، ورواية البؤساء لفيكتور هوغو، وبطلها جان فالجان الذي تحول اسمه إلى رمز للفقر والحصار في ثقافة قرن كامل، جان فالجان المحروم من الكثير ولكنه تحول إلى شمعة تضئ لتعطي النور للآخرين، بعد أن قام باقتراف عدد من الأخطاء سابقاً كسرقة رغيف خبز احتاجه لكي يؤمن القوت لعائلته، فتم سجنه بسبب هذا الرغيف خمس سنوات امتدت بسبب محاولات الهروب التي قام بها إلى تسع عشرة سنة.
بعد خروجه من سجن طولون واجه رفضاً من المجتمع، إلا أن أسقفاً في مدينة ديني يُدعى الأسقف ميريل رحب به واستضافه في بيته وأكرمه رغم علمه بأنه خارج من السجن، وخلال الليل سرق جان فالجان من بيت الأسقف أواني فضية كان يحتفظ بها الأسقف، وهرب بها، إلا أنه وقع في قبضة الشرطة قبل أن يخرج من المدينة، فلما أتت به الشرطة إلى بيت الأسقف، ادعى الأسقف أنه هو الذي أهداها إلى جان فالجان، وأن جان فالجان لم يسرقها، بل أعطاه إضافة لذلك شمعدانين من الفضة، وأخبره أن يستخدمها بحرص وأن يغير من نفسه.
وما أصدق قول الشاعر بريفير: يقف الجائع أمام حانوت ذي واجهة زجاجية في باريس ويسيل لعابه على علبة سردين أنيقة معروضة وراء الزجاج ثم ينطلق خياله “السمك محروس بعلبة معدنية محكمة الإغلاق” والعلبة محروسة في واجهة زجاجية مغلقة، والواجهة الزجاجية محروسة بأجراس الإنذار وأخيراً تكون الحراسة الشاملة من القوانين التي تُعاقب اللصوص حتى لو كانوا جائعين ومن رجال الشرطة.
كان الفقير في ما مضى هو الذي لا يجد قوت يومه وينام في العراء، أما فقراء اليوم فهم أكثر ترفاً من فقراء الأمس يستخدمون سيارات وهواتف وأجهزة كمبيوتر وملابس غالية الثمن وغرف نوم وثيرة الفراش، يتضجرون من فواتير الجوال، ويقلقون من عدم السفر في رحلات الاستجمام الصيفية وهم أشبه بالكمبارس في مسرحيات الأحزاب المتطرفة، ومسرحيات التغيير وأبطالها أصحاب المشروع، فهم السواد الأعظم الذي يستغل للإثارة ليتأكد ما طرحته النظريات الاجتماعية في مراكز البحوث وردهات الفنادق ودهاليز المؤتمرات واللجان.. إن الفقر حاضنة نموذجية لتفقيس الانحرافات بأشكالها، ويحوّل ضحاياه أعداء لأنفسهم في نهاية المسرحية.. إن تغير ذهنية الإنسان يجعلنا بحاجة إلى أن نطور قراءتنا في روايات الفقر وما يكتنفها من ملفات كالبطالة لأن الفقر وأدواته بين الأمس واليوم أشبه بالحرب وأدواتها فالفقر هو الفقر والحرب هي الحرب ولكن أدواتهما تغيرت كثيراً، ولقد أدرك مثل هذا التورم في خاصرة المجتمع.. المفكرون من أمثال د. فرانز فانون الأفريقي القادم من المارتينيك، قبل أكثر من سِتّين عاماً في حديثه عن معذبي الأرض، أولئك المنسيون الذين يكدحون في صمت، فحولهم العذاب والجوع والإقصاء إلى قنابل ستنفجر ذات يوم لتصحيح المعادلة المقلوبة ما دام أنهم لن يخسروا شيئاً ذا قيمة في حياتهم اليومية.. والله من وراء القصد.
abnthani@hotmail.com