ما زلنا في صدد الحديث عن البحث القيم والشامل الذي قام به العالم المغربي محمد الكتاني عن المفاهيم التي تدل على الحوار أو نقيضه.
ومن ذلك لفظ الحجاج أو المحاجة فهما مشتقان من “الحج” وهو القصد.
واشتق منه لفظ المحاجة والحجاج في معنى المنازعة في الرأي عن طريق عرض الحجج المعتمدة. والحجة هي البرهان. واشتقوا منه أيضا الاحتجاج. وهو تفنيد الرأي المخالف بالدليل والحجة. قال ابن سينا: جرت العادة أن يسمى الشيء الموصل إلى التصديق حجة. فمنه قياس ومنه استقراء لكن، من حيث إفادته للبيان يسمى “بينة” ومن حيث طلب الغلبة يسمى “حجة” وقد تسمى المجادلة بالباطل، حجة أو محاجة. وقد استعمل القرآن الكريم لفظ المحاجة ومشتقاته. فقال تعالى:
- {هَا أَنتُمْ هَؤُلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ..}آل عمران 66
- {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ..}الأنعام83
- {فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ..}آل عمران20
وبذلك تكون المحاجة مستعملة في الحق وفي الباطل على حد سواء، فهي لا تذم لذاتها ولكن بحسب ما تستعمل له. وهي في هذا الحكم كالجدل والمجادلة.
والجدل لغة يدل عموما على القوة والإحكام والشدة في الامتناع، فتقول: جدلت الحبل إذا أحكمت فتله. والجديلة من الشعر الضفيرة المحكمة الفتل، ومنه القول: فتاة مجدولة الخلق أي محكمة البنية. وأطلق على الصقر وهو الطائر المعروف “الأجدل” لاشتداد خلقته وقوته على المهاجمة. وجدل الخصم خصمه إذا صرعه بإلقائه على الأرض، التي تسمى الجدالة أيضا، بملحظ صلابتها وتماسك بنيانها.
ويمكن التماح كل هذه المعاني في لفظ “الجدل” الذي هو الحوار بقوة وشدة في المنازعة. وكأن هذه المنازعة أخذت صورة من الإحكام والتشديد على الخصم بغير هوادة. ولذلك ينصرف لفظ الجدل إلى الحوار المبني على الخصومة والتعصب للرأي، أثناء تبادل الأفكار، وعرض الدلائل بقبولها أو إنكارها. وكأن القصد ليس هو بلوغ “الحق” في ذاته. وإنما هو الظهور على الخصم.
وقد اعتبر الفلاسفة أن صياغة “الجدل” تندرج في علم المنطق. فذكر البغدادي في كتابه (المعتبر في الحكمة) أن الجدل صناعة معدة لمخاطبة كل إنسان، وفي كل مسألة كلية عن طريق الإنصاف، بالعقل العامي، ولا يتوصل إلى ذلك إلا بالمقدمات المشهورة المسلمة من الخصم. ولهذا كان قوام القياس الجدلي هو السؤال والجواب.
وإذا استقرينا الآيات القرآنية التي استعملت (مادة الجدل) وجدناه يذم أو يمدح بحسب الغرض منه، إذ منه ما يطلب لإحقاق حق ودفع باطل. ومنه ما يستعمل للعناد والمكابرة وتوخي الظهور على المخالف بغير علم وهذا هو معناه في قوله تعالى:
- {وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} الكهف56
- {وَمِنَ النَّاسِ مَن يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُّنِيرٍ } الحج8.
وغلب هذا النوع من الجدل في بداية الدعوة الإسلامية على المشركين والمخالفين وعلى أصحاب المقالات الكلامية، الذين كانوا يستهدفون التشكيك في العقيدة، عن طريق المماحكات اللفظية في تفسير كلام الله تعالى.
وقد أورد جامعو السنن والأحاديث ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في ذم الجدل واعتباره من البدع الضالة تغليبا للمعنى الثاني للجدل على المعنى الأول.
فقد أخرج ابن عبد الله، عن الأوزاعي في بلاغاته أنه قال: بلغني أن الله إذا أراد بقوم شرا ألزمهم الجدل ومنعهم العمل.
وأخرج الإمام مسلم في صحيحه أن أسيد بن حضير قال: فإنك منافق تجادل عن المنافقين.
ولكن هذا المعنى لا يعم سائر أنواع الجدل، فقد يأتي بمعنى الدفاع عن الحق الشخصي. ومنه قوله تعالى: {قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} (1) سورة المجادلة. وقد نزلت في حق “خولة” زوجة الصحابي أوس بن الصامت، التي اشتكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها قد ظاهرها. وكان الظهار يقضي بتحريم الزوجة على زوجها في العرف الجاهلي، ولا شك في أن هذه المرأة ظلت تراجع النبي صلى الله عليه وسلم في أمر التحريم، الذي بدا لها أنه غير معقول، ولا منصف لها. وكانت هذه النازلة مناسبة لنزول حكم الظهار. وتحديد آداب مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم.
فقال لها صلى الله عليه وسلم قد حرمت عليه. وظلت تعرض شكواها وتبين جانب الظلم فيها، ولما لم تجد لدى الرسول غير التحريم اشتكت إلى الله.
ونعود إلى سياق الفكر الإسلامي، فنشير أولا أن المسلمين ميزوا بين أصناف الجدل أو المجادلة فقالوا: إذا كانت المجادلة تنطلق من علم المجادل بخطئه، وصواب خصمه، فهي منازعة. فإذا تطرفت في التعصب للرأي الشخصي فهي مكابرة. فإذا كانت تنطلق من غير علم ولا دراية برأي الخصم فهي معاندة. فإذا انطلقت من مقدمات غير برهانية ولا دليل عليها فهي حينئذ مغالطة أو سفسطة. وأما “الجدل” بمعنى الحوار من أجل إظهار الحق، وتوهين الباطل فهو فرض كفاية كما نص على ذلك العلماء.
وقد تسمى المجادلة بالباطل حجة. ومنه قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } (16) سورة الشورى. وقد ورد لفظ الجدل في القرآن في عدة آيات تفوق العشرين آية، مثل قوله تعالى: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ..} البقرة 197 وقوله تعالى: {كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ} (الأنفال-6) وقوله تعالى: {وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ} (غافر-5). ففي سياق هذه الآيات وغيرها دل “الجدل” على المماحكة والعناد والتمويه بالباطل. فظن معظم الفقهاء والمتكلمين أن “الجدل” من حيث هو أمر مذموم. ولم يرجحوا ما دلت عليه آيات أخرى من اعتبار الجدل المشروط بنية الدفاع عن الحق أمرا مرغوبا فيه مثل قوله تعالى: {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}النحل 125.
وقد اعتبر العلماء في نهاية المطاف بعد اختلافهم، في هذا الأمر أن علم الجدل والحجاج من أوسع العلوم قدرا وأعظمها شأنا. لأنه السبيل إلى معرفة الاستدلال وتمييز الحق من المحال. ولولا تصحيح الوضع في الجدل ما قامت حجة ولا اتضحت محجة.
قال الطوفي: ومما يدل على أن علم الجدل فرض كفاية قوله سبحانه وتعالى: {وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} أي جادلوهم، وقال تعالى: {وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}، وهذا أمر بالجدال لإظهار الحق.
إن هذا التوازي بين الجدل المذموم والجدل المحمود هو الذي جعل من هذا المفهوم أقل استعمالا من مفهوم “الحوار” أو المحاورة. فأصبح هذا الأخير أعم من كل المفاهيم الأخرى. لأنه يعني تبادل وجهات النظر في احترام لرأي المخالف واستهداف التوافق أو التصالح.
وإذا كان الطوفي وهو من فقهاء القرن الثامن الهجري (توفي سنة 735هـ) قد شعر بضرورة اصطناع منهج الجدل لرفع كل غواشي الفتنة والاستهتار بالعقيدة، فما أحرانا نحن المسلمين اليوم بالحوار مع الغير، على أسس مستمدة من واقعنا المثقل بالتحديات والإكراهات. فالحوار هو الذي يخرجنا من الصراع بيننا وبين الآخر، وهو الصراع الناجم عن التعصب والانغلاق اللذين لا يخدم أي منهما مصالح الإسلام والمسلمين في شيء.