كان بقرطبة المصحف العثماني، وهو متداول بين أهل الأندلس، قالوا ثم آل أمره إلى الموحدين، ثم إلى بني مرين، قال الخطيب ابن مرزوق في كتابه (المسند الصحيح الحسن) ما ملخصه: وكان السلطان أبو الحسن لا يسافر إلا ومعه المصحف الكريم العثماني، وله عند أهل الأندلس شأن عظيم، ومقام كبير، وكيف لا؟ قال ابن بَشْكُوال: أُخرج هذا المصحف من قرطبة وغُرّبَ منها وكان بجامعها الأعظم، ليلة السبت حادي عشر شوال سنة اثنين وخمسين وخمسمائة في أيام أبي محمد عبد المؤمن بن علي وبأمره، وهذا أحد المصاحف الأربعة التي بعث بها عثمان رضي الله تعالى عنه إلى الأمصار: مكة، والبصرة، والكوفة، والشام. وما قيل إن فيه دم عثمان هو بعيد، وإن يكن أحدها فلعله الشامي، قاله ابن عبد الملك.
قال أبو القاسم التجيبي السبتي: أما الشامي فهو باق بمقصورة جامع بني أمية بدمشق المحروسة، وعاينته هناك سنة 657، كما عاينت المكي بقبة اليهودية، وهي قبة التراب، قلت: عاينتهما مع الذي بالمدينة سنة 735 وقرأت فيها، قال النخعي: لعله الكوفي أو البصري. وأقول: اختبرت الذي بالمدينة والذي نقل من الأندلس فألفيت خطّهما سواء، وما توهموا أنه خطه بيمينه فليس بصحيح، فلم يخط عثمان واحداً منها، وإنما جمع عليها بعضاً من الصحابة كما هو مكتوب على ظهر المدني، ونصّ ما على ظهره: هذا ما أجمع عليه جماعة من أصحاب رسول الله صلى عليه وسلم، منهم زيد بن ثابت وعبد الله بن الزبير وسعيد بن العاصي، وذكر العدد الذي جمعه عثمان رضي الله تعالى عنه من الصحابة رضي الله تعالى عنهم على كَتْب المصحف، انتهى
واعتنى به عبد المؤمن بن علي، ولم يزل الموحّدون يحملونه في أسفارهم متبركين به، إلى أن حمله المعتضد، وهو السعيد علي بن المأمون أبي العلاء إدريس ابن المنصور، حين توجه لتلمسان آخر سنة 645، فقُتل قريباً من تلمسان وقُدِّمَ ابنه إبراهيم، ثم قُتل، ووقع النهب في الخزائن، واستولت العرب وغيرهم على معظم العسكر، ونهب المصحف ولم يُعلم مستقره، وقيل: إنه في خزانة ملوك تلمسان، قلت: لم يزل هذا المصحف في الخزانة إلى أن افتتحها إمامنا أبو الحسن أواخر شهر رمضان سنة 737، فظفر به وحصل عنده إلى أن أصيب في وقعة طريف، وحصل في بلاد برتقال، وأعمل الحيلة في استخلاصه ووصل إلى فاس سنة 745 على يد أحد تجار أزمور، واستمر بقاؤه في الخزانة، انتهى باختصار.
واعتنى به ملوك الموحّدين غاية الاعتناء، كما ذكره ابن رُشيْد في رحلته، ولا بأس أن أذكر كلامه بجملته، والرسالة في شأن المصحف لما فيها من الفائدة، ونص محل الحاجة منه: أنشدني الخطيب أبو محمد بن بُرْطُلُهْ من لفظه وكتبته من خطه، قال: أنشدني الشيخ الفقيه القاضي أبو القاسم عبد الرحمن ابن كاتب الخلافة أبي عبد الله بن عياش لأبيه رحمهم الله تعالى مما نظمه، وقد أمر أمير المؤمنين المنصور بتحلية المصحف.
ونُفّلته من كل ملك ذخيرة
كأنهمُ كانوا برسم مكاسبه
فإن ورثَ الأملاك شرْقاً ومغرباً
فكم قد أخلوا جاهلين بواجبه
وكيف يفوتُ النصرُ جيشاً جعلته
أمام قناة في الوَغى وقواضِبهْ
وألبسته الياقوت والدّرَّ حِلْيةً
وغيرك قد روّاه من دم صاحبهْ