جعل الله في شهر رمضان، بركة وفضل ، أما البركة ففي وقته، سواء صادف حرارة القيظ، أو برودة الشتاء، فإنه تمر أيامه سراعاً، لأن أيام السرور قصار، فالإنسان الذي لا يشتغل في الجو الحار المكشوف لا يحس بالظمأ والجوع، ولذا كانت التعليمات لأرباب الأعمال، إذا بلغت درجة الحرارة فوق المعتدل يلزمون بالتخفيف عن العمال.. وهذا
من رحمة الله- بالعمال الذين يعملون في شدة الحر، أو يجعل صاحب العمل عملهم في الليل وتهيأ لهم الأسباب.
وأما الفضل: فلأن الله سبحانه يضاعف للصائمين أجرهم، وخصهم بباب اسمه الريان، لا يدخله إلا الصائمون فإذا دخلوا وتكاملوا أغلق، وينادي عليهم في مشهد من مشاهد يوم القيامة أين الصائمون؟ وهذا من تكريمهم، ورفع منزلتهم أمام الأشهاد.
قال العلماء: الصيام طهرة للصائم، ورفعاً لمنزلته في مشاهد يوم القيامة، كما جاء في الحديث القدسي يقول جل وعلا: (الصوم لي وأنا أجزي به: يَدَعٌ طعامه وشرابه وشهوته، من أجلي الصوم لي وأنا أجزي به) ذلك أن الصائم المحتسب: يمتنع عن كل شيء مما أباحه الله له، من أجل خالقه سبحانه وتعالى، وطمعاً واحتساباً لما عند الله من الأجر، فالصوم عبادة بدنية من أفضل العبادات فيجب المحافظة عليها لأن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح، والمحافظة عليه طاعة لله سبحانه.
لم يكن الصيام من التبتل، كما في بعض الشعوب وعباداتهم المخالفة لشرع الله، بإرهاق النفوس وتحميلها فوق طاقتها، فقد كان نفر، من الصحابة، قد تذاكروا فيما تعمله بعض الأمم الخارجة عن الشرع فيظلمون أنفسهم ويحملونها فوق طاقتها، فقال واحد أنا أصوم الدهر كله ولا أفطر، وقال الآخر أنا أصلي الليل والنهار ولا أترك ذلك، وقال الثالث: أنا اعتزل النساء فلا أتزوج، وروي أن حاول جب نفسه، لأنهم استقلوا عملهم عندهم.
فبلغ أمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغضب واستدعاهم وقال لهم: أما أنا أصوم وأفطر وأصلي وأنام وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني.
وجاءت امرأة إلى نساء رسول الله صلى الله عليه وسلم بحضور عائشة رضي الله عنها، فضحكن منها ومن تبذلها في لباسها وعدم عنايتها بهندامها وشعرها الأشعث، فسألتها عائشة، ما بالها هكذا؟ فقالت: لمن أتجمل إن زوجي متبتل؟ يصوم النهار ويصلي الليل، ولم يرفع لي ثوباً منذ كذا وكذا.
فأخبرت عائشة رسول الله بهذا واستدعا زوجها، وحدثه في حاله، فعزم عليه أن يفطر فأفطر، وأمره أن يذهب لأهله ويواقعها، وقال له: صم وافطر وصل ونم، فإن لأهلك عليك حق ولنفسك عليك ومن رغب عن سنتي فليس مني. فمرت بنساء رسول الله عليه وسلم بعد ذلك، وقد مشطت شعرها وتجملت.
ونحن نريد من مسلمي هذا الزمان أخذ القدوة الحسنة من سنة رسول الله، بلا كفر ولا تفريط ولا إفراط.
فنؤدي حق الله دون أن نكلف أنفسنا، كما في آخر سورة البقرة، ونتأسى بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعطي أهلنا حقهم وكل ذي حق حقه.
ولما كان الصحابة يتحرجون في ليل القيام وفي نهاره فقد بان لهم الحرج في النهار فاجتنبوه كما في الآية السابقة لكن بقي الحرج في ليل الصيام، ومع نسائهم، فجاءت الآية الثانية التي خفف فيها ما كانوا يتحرجون منه فنزلت الآية مخففة فقال تعالى: {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَآئِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُواْ مَا كَتَبَ اللّهُ لَكُمْ وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللّهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا} (187) سورة البقرة.
ولفضل الصيام ومكانته عند الله فقد نزلت تشريعاته من الله سبحانه، كاملة وواضحة، ومّيزة جل وعلا بالتوضيح والكمال في الشريعة فلا مجال فيه للتأويل والاجتهاد، وجاء من فضائله: أن رائحة خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك وأن الله خصّص للصائمين باباً اسمه الريان، وينادى عليهم في مشهد من مشاهد يوم القيامة، أين الصائمون؟ فإذا دخلوا وتكاملوا أغلق وأن الله سبحانه يقول لهم ولملائكته: الصوم لي فهو سبحانه قد اختص سبحانه بجزائه لأنه من أفضل العبادات وكم سمعنا ورأينا من دخل الإسلام تأثرا بالصائمين.
وأكرم الأمة محمد صلى الله عليه وسلم بليلة القدر في هذا الشهر التي العبادة فيها خير من العبادة في غيرها وليلة منها بألف شهر، كما فضل الله العشر الأخيرة من شهر رمضان بأنه قد أنزل فيها القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا، كما قال أهل العلم، ولذا يستحب للمسلم أن يجتهد في العشر الأخيرة لعله يحظى بكرم من الله وأنه يكون ممن أحيا ليله القدر التي عظم مكانتها ورغب في إحيائها رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن الأجير إنما يوفي أجره عند نهاية عمله، وأن يكون عمله بنية وإخلاص.
وتقول عائشة رضي الله عنها، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أجود ما يكون في العبادة في ليال رمضان، وهكذا المسلمون بعده، ليعطون ليالي رمضان زيادة في العبادة وتحرى ليلة القدر، قال بعض العلماء إنها ليست ثابتة في ليلة معينة، لأن رسول الله أراد تحديدها لأمته، ولكنه أنسيها قال بعضهم والله أعلم أنه لما خرج على أصحابه ليعلمهم وجد رجلين يختصمان فكان هذا سبب الإنساء، وحتى لا ننسى فإن تبييت النية لصيام الفريضة واجب ومن تهاون في النية فلا صيام له.
ولأهمية الصيام في حياة المسلم، وأنه التزام مع الله طلباً للثواب منه سبحانه ومراقبة له في السر والعلن، فقد أبان سبحانه بآيات كريمة الأحكام وهي واضحة الدلالة، وما على من خفيت، أو خفي عليه أحكام الاعتكاف في رمضان حتى لو كانت المدة قصيرة إلا سؤال أهل العلم وهم بحمد الله كثيرون، وقد أمرنا بسؤالهم ربنا بآيات كثيرة حتى يستبرئ المرء لدينه، وخفف سبحانه لأهل الأعذار والمسافرين، وعن النساء بأعذارهم رأفة وتخفيفاً لعباده لأن دين الإسلام يسر وليس بعسر، والأمم قبلنا شددوا فشد الله عليهم ولذا كان الاعتكاف في العشر الآخر سنة مؤكدة ولو قُصُرَتْ.
أما عن مفسدات الصوم فهي الأكل والشرب أو استعطر بدهن أو غيره ووصل أثره إلى الحلق فإنه يفطر أما الناس فليس عليه شيء لقول الله سبحانه: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَآ أَنتَ مَوْلاَنَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ} (286) سورة البقرة.
وهذه جاء التخفيف فيها رأفة بأمة محمد عليه الصلاة والسلام لما استجابوا وسبب النزول أن الصحابة رضوان الله عليهم، لما نزل الآية قبلها: {لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَإِن تُبْدُواْ مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللّهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاء وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاء وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} (284) سورة البقرة، ثقلت على الصحابة ولذا ورد أنه: جاء الصحابة وجثوا على الركب أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: يا رسول الله كل ما جاءنا نطيقه، غير هذه الآية فلا نطيقها، من منا لا يخفي ما في نفسه, ورسول الله يهدؤهم ويقول: قولوا آمنا بالله، وما جاء عن الله آمنا به، ويكررها حتى ارتاحت نفوسهم، وقد علم الله صدق النية فقالوا: آمنا بالله وما نزل من الله.
فلم يبرحوا حتى أنزل الله على رسوله ما بعدها: {آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللّهِ وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ}. فاستغفروا ربهم - وقالوا - سمعنا وأطعنا.. وكرروها.
فعلم الله منهم صدق النية والتوبة: {رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا}.. قال بعض المفسرين إن الله قد قال في توبتهم هذه (قد فَعَلْتُ)، وهذا من رحمة الله بعباده الصادقين في توبتهم، بدلالة الحديث الطويل الذي هو نداء من الله لبني آدم ومنه (لو جئتني تمشي لأتيتك هرولة، ولو جئتني بقراب الأرض خطايا: جئتنا تائباً لأعطيتك قرابها مغفرة أو ما قال: وهذا من رأفة الله بعباده وإحسانه إليهم.
وكل شيء يصل طعمه إلى الحلق مفطر أو وصل إلى الدماغ، لرطوبته أو حدته، من كحل أو صبر أو قطور أو ذرور أو أثمد كثير أو يسير أما ما يدخل الجسم عن طريق الإحليل فهو غير مفطر لأنه غير مغذي ومن غلبه القيء فهو لا يفطر، أما من طلب القيء فقد فسد صومه لقوله صلى الله عليه وسلم: (من استقاء عمداً فليقضي) حسنه الترمذي، وألحق الفقهاء بذلك (من استمنى فأمنى أو أمذى أو باشر دون الفرج أو قبل أو لمس ذكره فأمنى أو أمذى أو كرر النظر فأنزل منياً فسد صومه، أو حجم أو احتجم فسد صومه، لقوله صلى الله عليه وسلم: (أفطر الحاجم والمحجوم) رواه أحمد والترمذي، ولا يفطر بقصد ولا شرط ولا برعاق) يقول صلى الله عليه وسلم، (عفى لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه) ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (عفي لأمتي عن الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه)، ولحديث أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً: (من نسي وهو صائم، فأكل أو شرب، فليتم، صومه، فإنما أطعمه الله وسقاه) متفق عليه... ومن طار إلى حلقه غبار أو ذباب، من طريق أو رقيق أو دخان، لم يفطر لعدم التحرز من ذلك أو فكر فأنزل أو احتلم فأنزل لم يفسد صومه ولا يفطر بذلك.
أما من كان يشرب الدخان أو الشيشة ونحوهما، فإنه يفسد صومه بذلك ويفطر، مع أن هذه خبيثة في نفسها ومضرة بالصحة ولا نفع فيهما.. ومفطرات الصوم كثيرة غير هذه والله الموفق.