كان أهل الحي جميعاً يعرفونه حق المعرفة.. فعلى الرغم من أنهم كانوا لا يستفيدون من خدماته إلا أنه كان من علامات الحي.. يجوب شوارعه حاملاً صندوقه الخشبي معلناً عن قدومه بصوته الأجش... ثم حدث أن عرفت قدماه الطريق إلى حي مجاور حيث كان يقصد تاجراً ثرياً يمنحه عشرة جنيهات كاملة مقابل زيارته القصيرة له كل يوم.. أثار الخبر دهشة الكثيرين.. لكن العالمين ببواطن الأمور أوضحوا لهم أن خدماته لا تقتصر على مجال عمله فقط.. بل كان ينقل له أخباراً وأسراراً مع ضربات الفرشاة على حذائه اللامع دائماً.. وروى لهم البعض أيضاً أنه يتردد على قسم الشرطة للغرض نفسه.. وتحت ستار تقديم خدماته لرجال القسم كان يعمل عيناً لهم على أهل الحي.. وبالطبع كانت زياراته لشيخ الحارة للغرض ذاته حيث يقدم خدماته المجانية مقابل الحماية والرعاية.. تباعدت زياراتي للحي.. ولكني عندما عُدت بعد سنوات طويلة أدهشني أن أرى أنه قد صار علماً من أعلام الحي.. وصار محله للأحذية على شارع الحي الرئيسي معلماً من معالمه.. تتصدره صورته مع كبار القوم.. وقد ازدانت بالأضواء الملونة.. ويحيط بها أطر تحوي بعض القصائد التي تتغنى بمآثره وأفضاله.. وهو ما يردده أبناء الحي الآن.. بعد أن رحل عن الحي من رحل.. ومات من مات.. ونسي الجميع تاريخ الرجل مع الفرشاة... والصندوق الخشبي.