هاينريش رورر - ولراو، سويسرا - خاص بــ( الجزيرة):
كثيراً ما تنشر وسائل الإعلام الإخبارية في الآونة الأخيرة تقارير عن الاحتيال، والانتحال، ونسب كتابات لغير أصحابها، الأمر الذي يخلق انطباعاً مؤداه أن سوء السلوك أصبح بمثابة ظاهرة شريرة ومنتشرة وعلى نطاق واسع في مجال البحث العلمي. ولكن هذه التقارير أقرب إلى كونها مثالاً لوسائل الإعلام المروجة للأخبار المثيرة التي تسعى إلى المواضيع الساخنة وليس الروايات الصادقة عن تدهور القيم العلمية.
وبعيداً عن كونه قاعدة متبعة في البحث العلمي، فإن محاولات الاحتيال والغش من الاستثناءات النادرة، ويتم كشفها وتحديدها بسرعة من قِبَل علماء آخرين. ويبدو أن عامة الناس يدركون هذه الحقيقة. والواقع أن الثقة في البحث العلمي لم تضعف إلى حد خطير بسبب التقارير عن سوء السلوك. كما لم تعمل هذه الأحداث النادرة على الحد من التقدم العلمي، الذي يشكل قيمة ثمينة للجنس البشري.
لا شك أن حالات سوء السلوك العلمي تُعَد كثيرة حتى ولو كانت نادرة. وذلك لأننا ننظر إلى العلماء باعتبارهم منارات للأمل في البحث عن المعرفة - ونرى أنهم يتمتعون بقدر من الذكاء يمنعهم من محاولة ممارسة الغش والإفلات به. وهناك من الآليات الوقائية ما يكفي لتحميل أولئك القِلة من العلماء الذين يغامرون بهذه المقامرة المسؤولية عن أفعالهم. ولكن في حين يبدي المجتمع العلمي - بما في ذلك المؤسسات الأكاديمية والمهنية، ورؤساء الوكالات، والمديرين، والمحررين - في كثير من الأحوال عزوفاً عن التعامل مع حالات سوء السلوك بصرامة، فإن سمعة العلم ككل أصبحت على المحك، وليس فقط سمعة الشخص أو المؤسسة أو الصحيفة أو الكيان العلمي الوطني.
ومن عجيب المفارقات هنا أن هؤلاء الذين يضبطون كثيراً ما يلقون باللائمة عن سوء سلوكهم على المنافسة، والضغوط المرتبطة بالنشر والاعتراف والجوائز - وهي نفس الممارسات والحوافز التي قدمها المجتمع العلمي وعززها. ورغم تضخيم خطر سوء السلوك، فيتعين علينا أن نعيد النظر في الطريقة التي ندير بها العلوم - قيمها وفضائلها وأوجه القصور التي تعيبها.
ويتعين على العلماء أن يتبعوا مساراً غير محدد سلفاً على المستوى العلمي، ويتطلب اتخاذ قرارات عند كل خطوة. وسواء كانوا مصيبين أو على خطأ فإن هذا سوف يتضح في وقت لاحق لا محالة، وهذا هو ما يجعل ارتكاب الأخطاء أمراً لا يمكن تجنبه (ولو أن هذه الأخطاء لا يجوز أن تُترَك بلا تصحيح لفترة طويلة). إن العلم يعني السير باستمرار على خيط رفيع بين اليقين الأعمى والفضول العلمي؛ بين الخبرة والإبداع؛ بين الانحياز والانفتاح؛ بين التجريب والاكتشاف المُلهِم؛ بين الطموح والعاطفة؛ وبين الغطرسة والقناعة - أو باختصار بين اليوم القديم والغد الجديد.
ولكن اليوم، أصبحت البحوث على نحو متزايد ضحية لسوء التوجيه نحو الجوائز المربحة، والاعتراف المهني، والمكسب المالية - وهي المكافآت التي تخنق متطلبات التقدم العلمي مثل الإبداع والعاطفة. وعلى حد تعبير تي. إس. إليوت: «أين هي الحكمة التي فقدناها في المعرفة؟ وأين هي المعرفة التي فقدناها إلى المعلومات؟».
في المجالات العلمية «الجامدة»، مثل الرياضيات والفيزياء، يمكن إثبات الحقيقة بشكل أكثر شفافية، الأمر الذي يجعل هذه المجالات أقل عُرضة لسوء السلوك العملي. ولكن بعض فروع العلم، مثل الطب والعلوم الإنسانية والفلسفة، وغير ذلك من العلوم الاجتماعية، التي تعتمد بشكل أكبر على الانفتاح والخيال، من الممكن أن تُستغل بسهولة أكبر لكي تتناسب مع أهداف البيروقراطيين.
والواقع أن العديد من المجالات التي يطلق عليها اليوم «علوماً» - على سبيل المثال، جمع إحصائيات منحازة من أجل إثبات وجهة نظر أحد الساسة (أو الشركات)، أو نشر معارف قائمة بالفعل بصورة مختلفة - لا ترقى على الإطلاق للمعايير العلمية للأصالة والسعي إلى تحقيق رؤية أساسية.
ورغم أن إضفاء الطابع البيروقراطي على العلم كان سبباً في تأجيج المخاوف بشأن جاذبيته في نظر المفكرين الموهوبين، فلا ينبغي لنا أن نستغرق في التشاؤم. لا شك أن العديد من الناس أعربوا عن أسفهم لخسارة العقول اللامعة لصالح القطاع المالي على مدى العقود القليلة الماضية، ولكن ربما كان من الواجب علينا أن ننظر إلى هذا باعتباره ضربة حظ لأن هؤلاء العباقرة خلقوا فوضاهم في مكان آخر.
ونحن نستخف فضلاً عن ذلك بالجيل الأكثر شباباً من العلماء. فمثلهم كمثل أبناء الجيل السابق يدرك العديد من الباحثين الشباب الموهوبين أنهم يتعين عليهم أن يحرصوا على العمل الجاد الشاق في مواجهة التحديات الضخمة وتقديم إسهامات قيمة للمجتمع.
ولكن يتعين علينا أن نتوخى الحرص حتى لا نفسد عملهم بالممارسات المشبوهة التي تبناها المجتمع العلمي في الأعوام الأخيرة. ولابد من إعطاء الجيل الجديد من الباحثين القيم والمهارات - ليس فقط المثاليات العلمية، بل وأيضاً إدراك نقاط الضعف البشرية - الكفيلة بتمكينهم من تصحيح أخطاء أسلافهم.
(*)حائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1986. ويستند هذا المقال إلى محاضرة ألقاها رورر في إبريل/نيسان في ستوكهولم، والذي من المقرر أن يظهر في محاضر اجتماعات مؤتمر «الثقة والبحث العلمي»، والذي تولى تحريره جوران هيرميرين، وكيرستين سالين، وناليز إيريك سالين.
www.project-syndicate.org