عنوان هذه المقالة سمعته (يا ابن عيّاف) من أناس كثيرين عامة وسُراة قوم من أهل الرياض، وممن يتردد على الرياض وكل من يسكن الرياض أو يتردد عليها من غير أهلها، ويرى ما طرزت يداك من حدائق ذات بهجة ونخيل باسقة وميادين واسعة يحمدون الله أن هداك لهذا الإحسان في الإدارة والإحسان لمن راجعك في الأمانة، وحتى لا يثرب علينا من يقرأ مقالنا، ندلل بما يلي قبل سنوات قلت لجاري الكريم المهندس محمد العيدان يا مهندس خذ أوراق هذه الأرض وأخرج لها مخطط ورخصة بناء. وبعد مدة سألته أين المخطط والرخصة؟ قال لم ننجزهما، قلت مضى شهران! قال المهندس كلما قدمنا المخطط أعطونا ملاحظات وإذا أصلحنا ملاحظاتهم أعطونا أخرى. قلت يقسطون الملاحظات؟.. قال نعم.
طلبت الحديث مع الأمين، رد السكرتير فسلمت وقلت هل ابن عياف بابه مفتوح مثل سلفه عبدالله النعيم؟ قال نعم وحولني عليه، سلمت وحييته ورد التحية بأحسن منها، فحدثته بما حدثني العيدان وقلت من عنده مليون ريال من الطبقة الوسطى من الناس مثلي ينتظر عائداً سنوياً لا يقل عن 8%، وأنا عندي مخطط مبنى أخرتموه شهرين يعني خسارة ستة عشر ألفاً. رد عليّ قائلاً: هل تستطيع أن تأتي أنت والمهندس العيدان غداً الساعة الثامنة صباحاً؟ قلت نعم.. قال سأنتظركما وشكرته. والسماعة الأخرى بيدي مع العيدان، قال العيدان من تكلم؟ قلت ابن عياف، قال الأمين؟ قلت نعم، قال أنت جاد فيما تقول؟ قلت نعم ولك ولي معه موعد غداً. وفي الموعد كنا في مكتبه، فاستقبلنا والابتسامة تعلو محياه فشرح له المهندس العيدان معاناة أصحاب المكاتب الهندسية مع مهندسي الأمانة ولم نخرج إلا والموضوع محسوم، والقصة في كتابي (نوادر من التاريخ) وطالبت بتسهيل الإجراءات على الناس واختصار التواقيع مثلاً (رخصة البناء من تسعة إلى ثلاثة تواقيع)، وعدّل هذا الإداري النابه الكثير من هذه الأمور. مرة أخرى أرجو أن لا تختصر الجريدة هذا الشكر لهذا النبيل.. أحد الجيران أراد فصل حوش من بيته ليبيعه لضرورة مالية وتردد الموظفون ولم يوافقوا وما أكثر المترددين، فقلت له، ابن عياف بابه مفتوح ادخل واشرح ظروفك، يقول صاحبي دخلت وشرحت له الموضوع فوافق فوراً. ونموذج آخر يقول كنا عشرة مواطنين نراجع أحد المسؤولين في الأمانة وقوفاً خارج مكتبه، وأرائك مكتبه العشرة فارغة، فتجرأ أحدنا وفتح باب المدير وقال له افتح الباب لنجلس على هذه الأرائك فهي لنا من دولتنا وليست ملكاً لك، أخرتنا وشققت علينا، خطف المسؤول معاملة المواطن وأغلق عليها الدرج بغير حق فذهب المواطن ليشكوه على ابن عياف لعله ينقله لمكان لا يقابل الناس وليته هو الذي طلب الإعفاء وطلبك الإعفاء لتعطي الفرصة لغيرك فهذه تشكر عليها، ونتمنى أن يتكرر هذا الصنيع من غيرك لكي يعطوا الفرصة للأجيال القادمة، (ونثرب على من بلغ سن التقاعد ويلّح على أصحاب القرار بالتجديد له ونقول لهؤلاء: اقرؤوا سيرة أعظم إداري أنجبته مدرسة رسول الله صلى الله لعيه وسلم وهو عمر بن الخطاب، حيث رأوه ذات يوم مستلقياً في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ينظر إلى السماء يدعو ويقول اللهم مللت رعيتي وملوني اللهم اقبضني إليك غير مبدّل وأنت راضٍ عني).
ولا يغيب عن لجنة اختيار المسؤولين صنيع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمر عمرو بن العاص على سرية «ذات السلاسل» وفي السرية من هو أفضل منه مثل أبو بكر وعمر، وفي الليل أمر ابن العاص أن لا يوقدوا ناراً، راجع عمر أبا بكر وقال أبو بكر صّه يا ابن الخطاب نفذ أمر الأمير فلم يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا لأن الرجل أمهر منا بضروب الحرب. وطلب أبو ذر الإمارة ورفض رسول الله صلى الله عليه وسلم قائلاً: (إنها أمانة وإنك ضعيف).. وكان صلى الله عليه وسلم يقول للوليد بن الوليد (أخو خالد بن الوليد) وأسلم قبله، يا وليد لو أسلم خالد لقدمناه على غيره، وفعلاً حين أسلم هو وعمرو بن العاص قبل الحديبية فرح بإسلامهما وقدمهما على غيرهما لمعرفته صلى الله عليه وسلم بأقدار الرجال، ومرة أخرى حين اشتكى أهل البصرة لعمر بن الخطاب من ضعف واليهم تذمر الخليفة قائلاً: (اللهم إني أشكو إليك جلد الفاجر وضعف المؤمن). قال المغيرة ابن شعبة، أمر القوي فقوته لك وللمسلمين وفجوره على نفسه.
وفي عصورنا الأخيرة، يروي لي والدي -رحمه الله- عن الملك عبدالعزيز أنه في معركة السبلة في شوال عام 1347هـ اشتد الأمر عليه وحوله أربعين ألفاً من الجيوش حين تأخرت قوافل التمويل الذي يرسله الوزير الشهير عبدالله بن سليمان من الحجاز، وحين أقبلت قوافل الإبل بأحمالها فرح فرحاً شديداً، ورفع صوته قائلاً (عصابة رأسي ابن سليمان)، قال أحد كبار رجالات القصيم: يا عبدالعزيز لا يسمعك ابن سليمان فيتكبر علينا، فرد الملك قائلاً: يا فلان لا أحد يلومني في هذا الرجل، والله أنه منذ ثلاثين سنة في خدمتي، ما أسندت إليه أمراً إلا وينجزه بلا تردد، والذي قال للملك لا تكبّر رأس ابن سليمان علينا (قالها من باب المزح) وهو مقرب جداً من الملك عبدالعزيز ومن أركان حربه في القصيم ومن أشجع الناس والدليل على ذلك أنه كسرت رجله في معركة جراب عام 1333هـ فأراد أحد الفرسان الإجهاز عليه ولأمر أراده الله أخذ الفارس حين عرف شخصيته الهامة، يضع عقب البندقية على صدره لكن الشجاع أخذ الفرصة وبحركة سريعة ضغط على ريشة البندقية وإذا هي تطيح برأس الفارس فزحف والتقط عنان الفرس ولف جرحه بثوبه وتحامل على نفسه وركب الفرس ورجع سالماً وبعد شهرين تزوج من ابنة السبعة عشرة ربيعاً وهو في الخامسة والخمسين، ولا يظن القارئ أنها أرغمت عليه، لأنها من بيت عز وغنى، ولكن لأنه جمع الله له الشجاعة والوسامة والمال وبُعد الصيت ولذلك قبلت به، والكلفة مرفوعة بينه وبين الملك، حيث قال له وبتواضع شديد والناس تسمع تذكر يا فلان يوم نأكل أنا وإياك التميرة التي فيها الصويفة.
نعود لفارس الأمانة الجديد المهندس ابن مقبل ونقول له إن لك بالإدارة تاريخاً مشهود، وأهل الرياض يرجون أن تصنع فوق ما صنع ابن عياف وتنزل للميدان مثل ما كان ينزل وتبتسم في وجوه من يراجعك وتعطي أطراف المدينة حقها.
ونختم بدعاء أكرم الأكرمين في الشهر الكريم أن يجعلنا فيه من المكرمين وأن يحفظ البلاد وأهلها والقائمين عليها من كل سوء، ومن يقرأ هذا المقال ومن طبعه وأمليته عليها ابنتي نورة وأحد سراة القوم عبدالمحسن العلي المطلق والذي أشار إليّ بنشر هذا الشكر قائلاً: ابن عياف يستاهل.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.