لماذا الفنون التشكيلية؟ لماذا تسألين عنها الآن؟ هل هي أقل همومنا؟ هناك الفقر والبطالة وسوء الخدمات المقدمة للمواطن على المستوى العام في الصحة والتعليم وكلفة العمالة المنزلية الخيالية والتأشيرات وو.. كل هذه حقائق تمشي على الأرض. فلماذا يمكن لفقير أن يعنى بما يسمى الفنون التشكيلية؟؟ ماذا يمكن للعناية بهذه الفنون أن تضيف للمسؤول الذي سيحاول دعمها وتشجيعها؟ هل ستمنحه بقاء إضافيا في المنصب في مجتمع بسيط لا يقدر أفراده (بشكل عام) معنى الفنون التشكيلية؟؟.
هل المسألة طبقية؟ نعم هي طبقية.. المتعة بالفن مربوط بالقدرة على تذوقه.. وتذوقه لا يكون بالصدفة.. هو يكون لأننا درسنا ولأن عائلاتنا (أو أي أحد حولنا) ساهم في خلق اهتمامنا بهذا الفن إضافة إلى رحلاتنا وعملنا.. كله أتاح لنا قدرا من الفهم أعاننا على تذوقه سواء كان رسما أو نحتا أو تصويرا؟ فلماذا لا يفهمها هؤلاء الفقراء والمتطرفون؟
لأنه لم يتح لهم معلم يتذوق أدب شكسبير كما حدث لي. أعطتني معلمة اللغة العربية وفي ثانوية حكومية (واسمها عفت (عفت ماذا؟؟ للأسف لم أسأل يوما وكأنها ستظل بيننا إلى الأبد). هي من سوريا العظيمة وأتمنى أنها لا تزال حية حتى أستطيع تقديم شكري العميق لها على ما بذلت من جهد خارق مع سعودية بسيطة مثلي..؟؟
أعطتني ودفعتني لقراءة مسرحيات شكسبير (ولم أكن سمعت أصلا بشكسبير)!! وقصائد فولتير والترجمات المختلفة التي قدمت لها لنقارن بينها ونتذوق. أتاحت لي أن أقف في وسط المدرسة وأغرد بصوتي (الشجي) كما كانت تدعوه لأتلو قصائد المتنبي ثم قصيدة (دلتون: الشاعر الفرنسي) المختلف علي ترجمتها لنتعرف على تأثير الترجمة في تغيير المعنى: لاحظ كنا في ثاني ثانوي في مدرسة حكومية ولكن مع معلمة سورية مبدعة فأين من تعليمنا كل هذا الآن؟؟ (لا أزال أحتفظ ببعض الشخابيط حول تلك الترجمات: هل تصدقون؟؟.).
كل هذا حقق لي ولغيري ممن مر بخبرات مشابهة قدرا من الفهم لمعان أخرى تدور حولها الدنيا ونماذج فنية ممتعة تدفعك إلى أن ترى العالم جميلا وممتعا ويستحق أن نعيشه ونعمره كما أراد لنا خالقه. المتاحف والمعارض والفنون على اختلاف أشكالها تهدف كما عرفتها الجمعية البريطانية للمتاحف منذ عام 1988 بأنها أحد الوسائل الاجتماعية لتذوق الاستمتاع بالفنون واستلهامها وفهم أبعادها وإشباع الروح والعقل بمجمل التراث الإنساني بما يحقق التنوع في فهم الإنسان سواء كان منا أو خارجنا. إنه يمنح أرواحنا متعة واستراحة نحتاجها كمحاربين في مضمار هذه الحياة كما أنها توجد متنفساً يحقق الإشباع لمجموعات شبابية كثيرة تحفل روحها بالإبداعات التي لا يلتفت إليها أحد بل ويحرم حتى التفكير فيها مثل الرسم والموسيقى ولهذا يجد الحزن والقلق والتوتر والتطرف بابا واسعا يدخل معه إلى عقليات هؤلاء الشباب ويحتلها كما يفعل كل يوم في هذه الآلاف المؤلفة من شبابنا على طول هذه الأرض الطيبة.
التطرف لا يكون لأن مؤسسة واحدة تقوم به كما نعتقد بل لأن مؤسسات المجتمع الأخرى مثل المدرسة والجامعة ووزارة الثقافة والفنون والشباب عاجزة (لأسباب عديدة وبعضها خارج عن إرادة هذه المؤسسات وكلنا نعرف ذلك)عن أداء أدوارها التصحيحية للمفاهيم التي طال الجدال حولها دون نتيجة.
هذا الدور (المتقزم) لهذه المؤسسات العديدة المهمة في المجتمع يسمح للتطرف أن يكون رفيقا سهلا لمن يصادفه؟ هل نفهم لماذا الفنون التشكيلية وبكل أشكالها من رسم ونحت وآداب وفنون بأنواعها مهمة لكل مجتمع وليست مطالبات (نخبوية) لا معنى لها.
من المحزن أن الفنون لم توجد في حياتنا الشخصية أو المدرسية. الفن كان ولا زال عنصراً معاقباً دينيا وثقافيا وهو لا يدرس في المدارس ولا توضع له ميزانيات ولا يرحب بتقديمه للأجيال فماذا حدث؟
مدينة كالرياض يتجاوز عدد سكانها اليوم خمسة ملايين ونصف نسمة ولا يوجد فيها إلا متحف رسمي واحد يعرفه الزوار من الأجانب أكثر من السعوديين وهو متحف الملك عبدالعزيز التاريخي إضافة إلى متحف جامعة الملك سعود التاريخي الذي يحتاج أذنا خاصا لزيارته في حين يوجد أكثر من 2500 متحف في بريطانيا وأكثر من سبعين متحفا في مدينة مثل واشنطون دي سي كما أن بوسطن لوحدها تضم أكثر من ستين متحفا.
هناك بعض المحاولات الخاصة التي قام بها فنانون ومتذوقون للفنون لإتاحة الفن الجميل والإتجار به في نفس الوقت مثل جاليري حوار في برج المملكة بالرياض الذي تملكه وتديره الفنانة شذى الطاسان والذي افتتح عام 2006 إضافة إلى قاعة أو اثنتين يديرها بعض الفنانين الشباب ولا شك أن هناك ما يشابه ذلك في مدن أخرى كبرى مثل الدمام والخبر وجدة. لكن أين نحن مما يجري في العالم حتى الخليجي منه؟
في خبر أفرحني وأحزنني في نفس الوقت( لأننا بعيدون جدا عن هذه المرحلة) أعلنت إمارة أبو ظبي قبل فترة عن الجداول الزمنية الجديدة لإنجاز مشاريع المتاحف الكبرى على جزيرة السعديات إذ سيفتتح فرع متحف اللوفر في 2015 وسيفتتح متحف الشيخ زايد الوطني في 2016 كما سيفتتح متحف غوغنهايم في2017 ولم يتم الكشف عن كلفة هذه المتاحف التي ترعاها أبو ظبي وإنما يتوقع أن تكون بمليارت الدولارات!!! أين نحن من كل هذا؟ ألا يستحق الإنسان في داخلنا إلى التفافة ترطب هذا التطرف والجنون؟ لا ندعو إلى استثمارات بالمليارات بل ندعو إلى مناخ ثقافي صحي نعيش فيه بشكل طبيعي تتوازن فيه احتياجات الإنسان مثل كل البشر في كل مكان في العالم لنغادر عهد السعودة القاحل الذي ربينا عليه في عهد الصحوة إلى سعودة شابة جميلة منفتحة وراغبة في الحياة ألا نستحق ذلك؟.