الأوضاع في سوريا تشكل أزمة أخلاقية للمجتمع الدولي، ولكنها في نفس الوقت تشكل مرحلة جديدة في الخارطة السياسية في العالم..
فالحالة السورية تعد من المرات القليلة جداً التي لم يستطع العالم الإجماع على اتخاذ قرار لإنقاذ شعب أعزل يواجه جيشاً نظامياً مدججاً بأحدث الأسلحة..
ولا شك أن روسيا ومعها الصين لعبتا دوراً محورياً لإنقاذ النظام السوري من مغبة تدخل عسكري دولي محتمل.. ولا تزال هاتان الدولتان تواجهان المجتمع الدولي وتقفان حائلاً دون بناء قرار أممي لإنقاذ الشعب السوري وبالتالي إنهاء الوضع والأزمة السورية..
وكما اختار النظام السوري أن يقف أمام وفي مواجهة شعبه، فقد وقفت كذلك روسيا أمام العالم لتعلن أنها أمام سياسة خارجية جديدة تضعها روسيا لها في بداية العهد الثاني للرئيس بوتن، والذي يعد من صقور السياسة الروسية بعد انهيار الاتحاد السوفيتي.. وحاولت روسيا أن تستميل إلى جانبها الصين، ونجحت في ذلك.. رغم أن الصين قد فاجأت مصالحها في المنطقة بتمسكها بمثل هذا الموقف الذي يجعلها في مواجهة الرأي العام العربي والإسلامي.. ولكن الصين تستظل بموقف روسيا المتشدد وتعلم أن مواقف النقد واللوم ستخف عنها لأن روسيا ستتلقى اللوم الأكبر..
إذا نظرنا إلى منطقة الشرق الأوسط فسنجد أن سوريا هي الدولة والحليف الوحيد الذي بقي لروسيا، في منطقة الشرق الأوسط والعالم العربي على وجه التحديد، كما أن إيران هي دولة سايرة في فلك روسيا وترتبط معها بمصالح إستراتيجية.. وتحاول روسيا أن تبقي وتساند أنظمة إيران وسوريا بكل إمكانياتها حتى تظل هاتان الدولتان وما يتبعهما من نفوذ لهما في العراق ولبنان تحت مظلة النفوذ الروسي في المنطقة..
وإذا أخذنا الحالة السورية كنموذج جديد أشبه بالحالة العراقية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي - احتلال العراق للكويت - فسنجد أن هاتين الحالتين شكلتا منعطفات نوعية في السياسة الدولية، بل إنهما رسما خارطة جديدة في السياسة الكونية للعالم. وتعد الحالة العراقية هي تجسيد عملي وتجربة ناجحة لتعاون دولي مشترك مع بداية ما أمكن تسميته بانهيار سياسة القطبين (الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة)، وبداية مرحلة جديدة وصفت بالقطب الواحد، حيث تفردت الولايات المتحدة بإدارة شؤون العالم ومعها المعسكر الغربي.. أما الحالة السورية التي نعيشها الآن، فأرى أنها بداية مرحلة جديدة في السياسة العالمية، وهي العودة إلى نظام القطبين، حيث من الواضح أن روسيا ستعمل بقوة وبإمكاناتها الكبيرة إلى استعادة دورها الأممي في أن تكون لاعبة رئيسة في السياسات العالمية.. ومن المهم ملاحظة أن الصين ربما ستحذو حذو روسيا في بناء جبهة عالمية جديدة يكون الشرق في مواجهة مع الغرب، ويعطي الإذن ببداية مرحلة كونية جديدة يصبح فيه الشرق هو القوة القادمة في العالم..
وقد يستغرب الكثير من المحللين السياسيين وقوف الصين في مواجهة قرار أممي يمنع المجازر التي يرتكبها النظام السوري، رغم ما تعرف به السياسة الصينية من حكمة وتوجهات مساندة لدول العالم النامي، ولكنها هذه المرة قد وقفت بقوة نتيجة ظروف أو مواقف إستراتيجية جديدة للصين.. ومن بين هذه المواقف عوامل داخلية لا أريد أن أخوض فيها ولكنها باختصار ترغب أن يكون لها خط رجعة في حالة وجود مظاهرات داخلية وتكون قد استخدمت فيها الإجراء القمعي المعتاد.. ولكن الأهم في نظري أن الصين قد بدأت مرحلة جديدة تريد أن يكون لها شأن عالمي، وتريد أن تصبح قوة كونية لها مواقفها وإستراتيجياتها ونفوذها السياسي، ولاسيما أنها تخشى القاعدة العسكرية الإستراتيجية التي ستنشئها الولايات المتحدة في أستراليا، وتبعات مثل هذا الوضع العسكري الذي يحاول محاصرة الصين على وجه الخصوص..
كما أن الصين قد ترى أنه آن الأوان أن تصبح ذات سياسة مستقلة، حيث تمكنت فيما مضى من عقود من فرض سياساتها الاقتصادية على العالم وعلى أكبر القوى الاقتصادية في العالم، ولهذا فقد حان الوقت أن تتواكب القوة الاقتصادية التي تمتلكها الصين بقوة سياسية تعكس مصالح الصين بشكل واضح ودون مواربة.. ولربما قد وازنت الصين بين موقفها المتشدد في مجلس الأمن المتماشي مع النظام السوري وبين مصالحها مع العالم العربي والإسلامي.. فإما أنها رأت أن هناك مصالح أقوى وأعلى من مصالحها مع العالم العربي على وجه الخصوص، أو ربما أن تلك المصالح لم تتهدد أصلاً في باب العلاقات العربية الصينية.. ولكن يظل الهدف القادم للصين هو أن تفرض هيمنتها وقوتها على العالم، بما في ذلك العالم الغربي..
ومن هنا نرى أن الحالة السورية هي مفترق طرق أمام العالم، فهي كما يبدو بداية لإعادة رسم خارطة العالم السياسية، بمعني خارطة مواقف سياسية تتشكل لتصبح ربما أيديولوجيات أو براجماتيات أو سياسات عالمية يصبح لها مؤيدون ومساندون كما سيكون لها خصوم وأعداء.. وستلعب الصين وروسيا والهند كذلك قوة جديدة فيما بينها لتصبح هي القوى القادمة في العالم.. والكثير كان يتحدث عن هذه القوة، ولكن في نظري أن المشهد السوري هو الذي سيترجم مثل هذه القوة على أرض الواقع، وسيعود العالم إلى ثنائية جديدة، ليست قطبين فقط، بل كتلاً قطبية، تمثل كل كتلة مجموعة من الأقطاب الكبرى في العالم.. وسيبدأ الشرق ككتلة براجماتية في سعيه نحو امتلاك مكانة وقوة موازية لما امتلكه الغرب على مدى قرون عديدة.
alkarni@ksu.edu.saالمشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية - أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود