كل من تعامل مع البريد الإلكتروني سيعرف الموقف التالي: تكتب رسالة، تضع المُرسَل إليه، تضيف العنوان، ترسلها، ثم تندم على إرسالها، ربما لأنك كتبت البريد في لحظة غضب، أو لأنك بالخطأ وضعت معلومات حساسة أو محرجة، ولكن فات الأمر الآن، فالرسالة ذهبت ولم يعُد من حل إلا انتظار العواقب والتعامل معها. لا شك أن هذا كان يحدث في السابق أيضاً مع الرسائل المكتوبة والمظاريف لكن بشكلٍ أقل، فالكتابة اليدوية والورق يرافقهما التأني والتفكير، غير الإنترنت التي صفتها السرعة وعدم التروّي. ولكن هناك استثناءات. ومن هذه الاستثناءات رسالة أُرسِلَت في القرن الماضي، رسالة ندم عليها صاحبها وغيّرت مجرى التاريخ إلى اليوم. ما هي هذه الرسالة؟
ذلك كان القرن الذي اشتعلت فيه الحرب العالمية الثانية وهي أضخم حرب عرفها التاريخ، وبدأت الحرب عام 1939م عندما أمر هتلر قواته الألمانية بغزو بولندا وأعلنت بريطانيا وفرنسا الحرب على ألمانيا ودخلت دول العالم واحدة بعد الأخرى في الحرب، وبدأت الطاحونة تطحن وآلة الحرب تعجن، وأشهر أحداث الحرب هو كارثة عام 1945م عندما ألقى الأمريكان القنبلة النووية على هيروشيما في اليابان ومن ثم أتْبَعوها بأخرى على ناغازاكي وهذا ما قتل وجرح وشوّه مئات الألوف من الأبرياء، وصار السلاح النووي أهم سلاح عرفه البشر لدماره الشامل الذي يمحو مدناً كاملة في طَرفة عين، وهذا ما جعل صاحب الرسالة يندم، وهو العالم الشهير آينشتاين. في سنة 1939م -السنة التي بدأت فيها الحرب- سمع آينشتاين أن علماء ألمانيا النازية نجحوا في شَطر الذَرّة، وهذا ما أقلقه، فرغم أنه هو ألماني إلا أنه كان في أمريكا وقتها والتي هاجر لها وبقي فيها إلى وفاته ولم يكن يؤيد النظام النازي، فلما أفزعته تلك الأخبار كتب رسالة إلى الرئيس الأمريكي روزفلت لخّص فيها بعض ما وصلت له الأبحاث النووية آنذاك وأفاده فيها أنه يجب على أمريكا أن تسبق ألمانيا وأن تحصل على اليورانيوم والذي لا يتوفر في الولايات المتحدة كثيراً وهو مِن أُسُس تصنيع القنبلة النووية، وهذه كانت الرسالة التي صَنَعَت سلسلة من الأحداث انتهت بتشكيل مشروع مانهاتن وهو المشروع العلمي العسكري الذي كانت ثمرته الخبيثة أول قنبلة نووية تصنعها يد البشر واستخدموها في تجربة ناجحة في منطقة صحراوية في أمريكا. لما أدرك العلماء ضخامة الانفجار الذي يمكن أن تسببه القنبلة أقلقهم هذا (هذا وهُم أصلاً الذين يخترعون هذه المصائب)، وزاد قلقهم لما علموا أن تلك التقارير عن ألمانيا وقدرتها النووية كانت خاطئة وأن ألمانيا لم تكن عاكفة على بناء قنبلتها النووية، فهنا كتب آينشتاين رسالة إلى الرئيس روزفلت يحثه فيها على أن يجتمع بالعلماء هؤلاء المعارضين لاستخدام السلاح النووي، إلا أن روزفلت مات قبل أن يقرأ تلك الرسالة، وأتى بعده الرئيس ترومان والذي أمر بإلقاء القنبلتين اللتين سحقتا المدينتين.
«وا رباه! وا أسفاه!»، هتف بها آينشتاين لما سمع بانفجار هيروشيما، وظل نادماً على تلك الرسالة الأولى التي أدت لهذه المعاناة البشرية، وقال في آخر عمره: إن تلك الرسالة كانت أكبر غلطة صنعها في عمره كله.