حين تحمّ ساعة الكتابة أكون عادة قد حسمت أمري على تراب أو أسفلت أو وعور أي الدروب أريد أن أكتب بدايتي أو نهايتي، هل على طريق الحرير أو عبر معابر ناقلات النفط أو في اتجاه تلك الجنائز التي لا تعود أو ربما أكتفي بجرّ جسدي أو قلمي من جنوب الرياض إلى شمالها
فأرى من التناغم والتناقض بين مستويات المعيشة وبين الخلفيات الاجتماعية وأنماط السلوك ما يقشعر له الحبر في أوردتي؟
إلا أنني طوال مساءات هذا الصيف المشتعلة بقناديل الهواجس وألغام الأسئلة المؤرقة عن مآلات الربيع العربي وخاصة تحوله في سوريا إلى حريق بواح مع احتمالات توسع خطافات اللهب باتجاه لبنان وحدود أخرى، كنت أشعر بحالة عزوف عن الكتابة هي أقرب إلى حالة العجز من حالة المزاج. وكأنني كلما اقترب موعدها أستعد للذهاب إلى حتفي أو أتقدم عزلاء إلا من تباريح الروح نحو حافة هاوية مريعة لا أدري من هي الأيدي التي تدفعني إليها، كما لا أدري أي الرفوش ستتلقفني وتهيل ترابها على قامتي، فلا يسمع أحد من القراء دقات قلبي أو لا يحفل بها وإن سمعها لشدة الصمت أو ضجيج أصوات نادراً ما صارت تحمل كلمات. يروغ الوقت من يدي ويدي معلقة على لوحة المفاتيح عبثاً تحاول أن تلج لأي فضاء من ثقوب الأبواب.
ألعب بأزرة الكمبيوتر في محاولة لتأجيل ساعة الكتابة وكأنني أخشى من مواعدة منيتي، ولكن بمجرد أن أقترب من دورانها الراكض يرفع عقرب الثواني شوكته ويبدأ بشك أصابعي بشهد سمومه الشفاف وحلكة ليلي المعشقة بالسهر؛ فأكاد أستسلم للمضي مع باقي الليل عكس عمري بطواعية وغبطة وسمو أولئك الملوك الذين ارتضوا التنازل عن عروشهم في لحظة طيش عشقي.
يلاحقني الهاتف بنداءات هيئة تحرير (الجزيرة) فيبدو تمنع الكتابة كطائر مرعوب أمام موعدها المضروب أسبوعياً بتوقيته الدقيق الصارم الذي لا تعنيه أمزجة الكتابة ولا أعذارها المرهفة، ولذا فهذه النداءات الدمثة التي تنبهني بلطف لنكاية الوقت لا تلبث أن تتحول في ضميري إلى تأنيب يؤلبني ضدي. يعتري جراءها جهاز الكمبيوتر شعور يشبه قسوة صفارات القطارات حين يوشك الرحيل أو يشبه ذلك الرجع الموجع للنداء الأخير لرحلات الطائرات.
فتأخذ بالتهجم على وقت الكتابة تلك الأحاسيس المنقسمة بين الإحجام والإقدام، وبين التراجع والتقدم، وبين التمسك والتخلي، وبين الاستماتة واللا مبالاة، وبين الرهبة واللهفة، مثلما نكون على حافة أن تفوتنا رحلة، حيث لا نعود نصغي إلا لسطوة التهديد بالفقد، لنقذف أنفسنا بكل ما أوتينا من سرعة باتجاه الشفير وكأننا لم نعد نملك من أمر خياراتنا إلا عدم التأخير للحاق بما يكاد يصير في حكم الفوت. وكما لا يعبأ القبطان عندها بتلك السواعد المعلقة بين اليابسة وبين البحر الملوحة بلوعة الفراق وتوجس المجهول، فإن رئيس التحرير لا يرحم تأخر الكُتاب في الالتزام بمواعيد مسبقة قبل إغلاق صفحات الصحيفة استعداداً للإصدار، كما أنه وإن تعاطف مع ما يراه من تقيح جراحهم أو تشقق شعيراتهم الدموية الدقيقة على الورق فإنه ليس له أن يفض تلك الاشتباكات الدامية بين الكاتب وبين كتابته، وكل ما في وسعه أن يطلب من الكاتب أن يغسل كلماته من دمائه وسهره وسخطه وغضبه ومن وحم الكتابة ومخاضاتها قبل أن يبعث بها إلى الجريدة على ألا يستغرقه ذلك تأخير المقال عن موعده. والموقف الصعب هنا هو كيف يمكن الكتابة عن الحب، البلح، الحرية، التسامح، الحد، اللحد، الحمل، الحلم، الروح، النجاح، الانسحاب، الحنطة، التباريح، الرحيل، القبح، الحلي، الحلال، الحرام، البحر، السحاب، الصحراء، التفاح، الحوار، الحرب، الضحايا، الحياة، حمامة السلام، الأحياء والوحدة الجارحة دون استخدام حرف الحاء؟ كيف يمكن الكتابة عن وحشية الحروب إذا أخفيت جثث القتلى وأحرقت السجلات التي تدل على أنهم كانوا هناك أحياء يرزقون ويعشقون ويحلمون قبل اشتعالها؟ هل يمكن الكتابة عن العدل والمساواة والشعر والفنون التشكيلية وزرقة السماء وخضرة الأرض وعن نوافير الأمل أو الألم والصبر والطفولة والعنفوان وعن الإباء والجمال أو الوجه الحسن بغير أشواق المجتمعات البشرية ومحاولاتها الفاشلة والناجحة معاً على مر العصور لاستدراج تلك الكلمات المتكبرة خارج القاموس وتوطينها بين الناس؟ وهل يمكن كتابة تلك الكلمات بحبر سري لا يلحظه حراس اللغة الذين يتذرعون في محاصرتها بالخوف عليها من النزول إلى الشارع والاختلاط بالأطفال والحالمين والعشاق والشعراء؟ هل يمكن الكتابة عما يجري في العالم اليوم وما يجري على الأرض العربية بالقفزات بينما المخالب والخطافات تخترقنا فتزيد من تخبطنا وشتاتنا وضبابية خياراتنا وعجزنا عن تقل اختلافنا وتردينا في تخلفنا وانقسامنا بيننا؟ هل بنا حاجة في هذه اللحظة إلا إلى كتابة إذا لم تقل كلمة حق فعلى الأقل، لا تولم لنا بآلامنا ولا تدخلنا في نفق النفاق ولا تورطنا في قصر نظرها أو آنية مصالحها؛ فأي كتابة إلا تلك الكتابة التي تتلوى كأفعى وتحط على فرائسها كعقاب أو تسكت في كلامها كشيطان أخرس؟
كم نحن بحاجة حارقة إلى كتابة لا تتشفى بنا ولكنها في نفس الوقت لا ترتكب جريمة تجميل الأخطاء أو تشجيعنا على المضي فيها بحبر بارد أو بتعصب أعمى.
ففي هذه اللحظة هناك تطورات كبيرة على المستويين الداخلي والعربي، والإقليمي والدولي. بما يكاد يلوي أعناق كل أحلامنا بالربيع العربي ويحولها إلى حالة من التحسب والتوجس وضرب الأخماس بالأسداس, خاصة في مناخ الشحن الطائفي من ناحية وضعف البدائل وعدم الخبرة السياسية خارج تجارب الأنظمة الشمولية من ناحية أخرى.
إن هذا التعقيد المرعب هو ما يجعل الكتابة أمراً في غاية الضراوة والدقة والمسؤولية الصعبة؛ لأن الكتابة في هذه اللحظة تحتاج إلى الحس النقدي في التحليل وتحتاج إلى عيون زرقاء اليمامة في حدة البصر، وتحتاج إلى بوصلة استراتيجية في الرؤى، كما تحتاج إلى مساحة لا تحد من الحرية للحوار فيما يجري قبل أن يجرفنا جميعاً إلى مصائر نخالها ليست من صنعنا، ولكننا لا نستطيع أن نعفي أنفسنا من مسؤولية مصائبها.
وهذا النوع الصعب من الكتابة الذي نحتاج إليه هو التحدي الذي يحدوني لأن أشعر كلما اقترب موعد تسليمي للمقال بفداحة الكلمة، وكأنني على وشك تلقي أو إطلاق رصاصة، وإذا كان ذلك يرجع إلى ثقل الأمانة التي تلقيها الكتابة على كاهلي النحيل الشاحب فإن المفارقة أنني لا أستطيع أمام طوفان التحدي إلا التعلق بقشة الكتابة.. كما أن ليس لنا مهما شد على أعناقنا الخناق التخلي لحظة عن رفيف الأمل أو التفريط في فطنة الأسئلة.. هذا ولله الأمر من قبل ومن بعد.
Fowziyaat@hotmail.com