دخل علي عزت بيجوفيتش السجن، ليخرج منه مفكراً ورئيساً لبلاده الجديدة، وليقول كلمته الشهيرة، “عندما تكون في السجن تكون لك أمنية واحدة: الحرية”، وعادة ما يحتاج الزعماء التاريخيون في مراحل التغيير الكبرى إلى التعرض لسطوة الاستبداد من أجل الوصول إلى المعنى الأسمى في الحياة الحرية، تعلم بيجوفيتش كيف يهرب إليها، كما عبر عنها غي كتابه الشهير “هروبي للحرية”، وتعلم أيضاً كيف يرمم تلك الجسور المتآكلة بين الشرق والغرب، ويناقش القضايا الكبرى في التاريخ الإنساني، وقد أبدع في استعراضه لها في كتابه الإسلام بين الشرق والغرب، كان علي عزت أحد خريجي السجون الذين أعلنوا بدء مرحلة التغيير في وطنه.
***
كذلك دفع نيلسون مانديلا ثمناً طويلاً في السجن في قصة كفاح أمته ضد الاستبداد الأبيض في وطنه، لكنه خرج بمفاهيم أكثر تحضراً وتقديراً لمعاني الحرية، فلم ينتقم، وأعلن بدء مرحلة التسامح بين البيض والسود، ليصبح رمزاً للفكر المتسامح ضد الفكر العنصري، أدرك نيلسون مانديلا في السجن شروط الحرية بمفاهيمها الحديثة، وتعلم أن حقوق الإنسان للجميع، مهما اختلف لسان الإنسان أو دينه أو لونه، والتي تكتمل بإعلان الصفح والعفو عما مضى، من أجل مستقبل أكثر تسامحاً للأجيال الجديدة، وبعد تقاعده في 1999 تابع خريج السجن والرئيس السابق نيلسون مانديلا عمله النبيل مع الجمعيات والحركات المنادية بحقوق الإنسان حول العالم، وتلقى أكبر عدد من الميداليات والتكريمات من رؤساء وزعماء دول العالم.
***
اتهم رجب أردوغان بالكراهية الدينية، ودخل السجن ثم خرج منه أكثر تقديراً لمبادئ المحبة والتسامح، وليبدأ مشواراً سياسياً خالياً من الأيدولوجية والكراهية، ويعلن انشقاقه عن نجم الدين أربكان، ويشكل حزباً جديداً مع عبدالله غول، أطلق عليه حزب العدالة والتنمية، وأعلن أن الحزب الجديد سيحافظ على أسس النظام الجمهوري، ولن يدخل في عراك سياسي مع العسكر، وتعهد باتباع سياسة واضحة ونشطة من أجل الوصول إلى الهدف الذي رسمه أتاتورك لإقامة المجتمع المتحضر والمعاصر في إطار القيم الإسلامية التي يؤمن بها 99% من مواطني تركيا، ويحقق الإنجازات أثناء ترؤسه لبلدية إسطنبول، وتتحول المدينة بسبب برنامجه الجديد من مدينة للفقر والبؤس إلى معلم سياحي كبير تأتيها الملايين من كل صوب، ويكمل إنجازاته على المستوى الوطني بعد توليه رئاسة مجلس الوزراء، ويحارب الفساد المالي، وتدخل تركيا في عهده مصاف الدول الغنية في العالم، ثم أعلن بعد ذلك انقلابه المدني على العسكر ونهاية مرحلة.
***
اعتقل المنصف المرزوقي وسجن في زنزانة فردية بسبب نشاطه المهني وفي مجال حقوق الإنسان، وقد أفرج عنه بسبب حملة دولية وتدخل من نيلسون مانديلا، وبعد الثورة التونسية تم انتخابه رئيساً مؤقتاً، ليكون عهده بداية عصر جديد في وطنه، واعتقل محمد مرسي أكثر من مرة في عهد حسني مبارك، وخرج في آخر اعتقال بعد نجاح الثورة المصرية، ولم يمض وقت بعد خروجه حتى نجح في الفوز بمقعد الرئاسة في مصر، وقبل أن يحقق الإنجازات انقلب على العسكر في فترة قياسية، لكن مستقبله السياسي لا يزال على المحك أمام أكبر تحدٍّ للحريات في تاريخ مصر، إذ لا يزال عقله السياسي مكبلاً بارتباطه الأيديولوجي مع حركة الإخوان، ومن أجل يصل إلى فلسفة الحرية عليه أن يهرب إليها، كما فعل علي عزت ورجب أردوغان.
***
هذه سيرة لبعض خريجي السجون الذين شقوا طريق بلادهم إلى ساحة الحرية عبر قضبان الزنزانة، ولو ترك سجانو علي عزت بيجوفيتش في عزلته الدينية والعرقية لما تعلم كيف يهرب إلى الحرية، ولو ترك العسكر رجب أردوغان يغرق في كراهيته الدينية، لما أدرك أن التسامح والمحبة والحرية أقوى أسلحة الإنسان في معركته ضد الاستبداد، ولو لم يسجن البيض في جنوب إفريقيا نيلسون مانديلا مدى الحياة، وتركوه يُقاتل في شوارع جوهانسبرج حتى يُقتل كغيره من المظلومين السود، لما أصبح رمزاً خالداً في تاريخ كفاح جنوب إفريقيا ضد العنصرية البيضاء، ولكن هل يدرك السجان السياسي تلك الحقائق، أم أن الاستبداد آلة بلا عقل، تقتل وتسجن وتعذب، لكنها لا تعلم أن من بين أولئك المحكوم عليهم بالسجن من ينتظر ساعة الخروج، ليعلن بدء مشوار الحرية في بلاده.