عندما أبحرت سفينتان محملتان بجنود اسكتلنديين مرتزقة هدفهم المشاركة في الحروب من أجل الغنائم، حطت السفينتان على شواطئ نهرية حول مدينة أوتا النرويجية، واشتبك هؤلاء الجنود الذين كانوا متجهين إلى أحد
أطراف الحروب النرويجية الدانماركية حيث تم استئجارهم، اشتبكوا مع ميليشيات الفلاحين من مدينة أوتا، وانتهت المعركة بانتصار الفلاحين على الجنود المرتزقة.. كانت هذه الحادثة هي التي كتبت اسم مدينة أوتا في تاريخ الحروب الأوروبية والمعروفة بمعركة كرنجن، وكان ذلك عام 1612م.. وامتزج التاريخ بالأسطورة، فقد أشارت بعض المصادر إلى أن الجنود الاسكتلنديين كان عددهم قريباً من الألف، لكن مصادر أخرى تشير إلى أنهم يصلون إلى حوالي ثلاثمائة جندي بينما الميليشيات المحلية وصلت إلى خمسمائة من الفلاحين المحليين.. وتعد هذه المعركة من المعارك التي تشير إلى الدفاع عن الأراضي والاستقلال النرويجي..
وهذه المدينة الحالمة التي يسكنها حالياً ما لا يزيد عن ثلاثة آلاف نسمة تقع وسط النرويج بين سلاسل جبلية تستقطب الأهالي والسياح في التزلج على الجليد، كما هي تقع بين ملتقى نهرين من أنهار النرويج يكسبها ويكسب المناطق المحيطة فيها جمالاً خاصة خلال فترة الصيف القصيرة في مدينة أوتا..
هذه المعركة والاحتفال بالنصر بعد ثلاثمائة عام من وقوعها هو الذي أوحى - ربما - للسيد يوهان نيجارد بفكرة الطرد النرويجي الذي وضع فيه عددًا من المحتويات وسلمه إلى عمدة المدينة، وكتب ملاحظة بعدم فتحه إلا بعد مرور مائة عام. والسيد نيجارد - صاحب الطرد - كان هو المنظم للاحتفال المئوي الثالث لانتصار النرويجيين على الاسكتلنديين الغزاة الذي حدث في معركة كرنجن عام 1612م، أي قبل ثلاثمائة عام. وتتضح وطنية نيجارد من خلال فكرته لتنظيم مثل هذا الاحتفال من ناحية، إضافة إلى أن أحد أهم المكونات التي احتوى عليها الطرد هي قطع قماشية بألوان العلم النرويجي الأحمر والأزرق والأبيض. ومن الواضح أن هذا الطرد لم يقفل عام 1912م، ولكن أضيفت إليه محتويات جديدة من قصاصات صحافية لصحف عام 1914م وعام 1919م. مما يعني أن الإقفال الحقيقي لهذا الطرد لم يتم عام 1912م. وقام السيد نيجارد بتسليم الطرد إلى عمدة أوتا في العشرينيات من القرن الماضي، وأبلغه برسالته في عدم فتح الطرد إلا بعد مائة عام، أي في 26 أغسطس 2012م.. وهذا ما حدث فعلاً في التاريخ نفسه وبحضور أميرة النرويج استريد، وبنقل تلفزيوني مباشر إلى كل أنحاء العالم وبحضور عمدة مدينة سيل التي تتبعها مدينة أوتا..
كما أن القصاصات الصحافية التي أودعت في الطرد بعد عام 1912م تشير إلى تبرعات الأهالي بمبالغ معينة بهدف إقامة نصب تذكاري للنصر في معركة أهالي يوتا ضد المرتزقة الاسكتلنديين، مما يوضح أن هدف نيجارد هو تنظيم الاحتفالية المئوية بذكري النصر، وكان متوقعاً ومتأملاً أن يتحول ذلك إلى إقامة مثل هذا النصب التذكاري تأكيداً على أهمية المعركة، ورغبة منه في تكريس مثل هذه الحادثة في أذهان النرويجيين والأجيال القادمة التي ستأتي..
ولا شك أن الطرد النرويجي قد لفت الانتباه العالمي إليه، واهتمام مئات من الملايين من الناس في كل أنحاء العالم، وهذا يعكس حب الناس في استكشاف التاريخ القديم، وشغفهم بمعرفة الأحداث التي مر بها العالم. ومن أهم تلك الاهتمامات الإطار الذهني الذي كان يفكر به الأشخاص في لحظات تاريخية معينة. ومن المؤكد أن الرسالة المحورية التي كان يسعى إليها يوهان نيجارد هي أنه يريد التواصل مع الأجيال الجديدة في موطنه النرويج وتبليغهم رسالة تعكس لحظة تاريخية مرت فيها مدينة أوتا، ويربطها بلحظات تاريخية مهمة مرت فيها النرويج بشكل عام.
ولربما لو يسأل كل منا نفسه لو أراد أن يترك طردًا يفتح بعد مائة عام ماذا ستكون محتوياته؟ ماذا عسى أحدنا أن يختار لتشكيل محتويات معينة نتخاطب بها مع الأجيال القادمة؟ وهل المكون الشخصي أم المكون الوطني أم المكون العربي أم المكون الإسلامي أم المكون العالمي هو الذي سيشتمله مثل هذا الطرد؟ وما هي الرسالة التي يريد أن يوصلها كل واحد منا إلى العالم بعد مائة عام من اليوم؟ وهل هذه الرسالة هدفها تأكيد الماضي أم وصف الحاضر أم استشراف المستقبل أم تمازج بين مختلف الأجيال الماضية والحاضرة والمستقبلية؟ هذه أسئلة مهمة نحتاج التفكير فيها ملياً من وحي فكرة الطرد النرويجي.. وهذا ما حدا بالسلطات في مدينة سيل وأوتا إلى أن يقوموا بإيداع محتويات هذا الطرد في أحد المتاحف الوطنية في النرويج ليكون شاهداً على حدث استثنائي غير مسبوق، وليكون دالاً على لحظات تاريخية مرت عليها مدينة أو مجتمع، ولكنها لحظات وقف أمامها العالم تقديرًا وإعجاباً..
alkarni@ksu.edu.saرئيس الجمعية السعودية للإعلام والاتصال، المشرف على كرسي صحيفة الجزيرة للصحافة الدولية بجامعة الملك سعود