وإذ يكون من الحتم وجود مرجعية دينية في مثل هذه الأنظمة التي اختارت لنفسها هذه السمة،وتلك المهمة، لتراقب المشهد،وتحدد آفاق التغيير، وتمنح الشرعية، وترصد تحرك المجتهدين، وتملك القدرة على التدخل والحسم في الوقت المناسب، فإن هناك تكوينا، ومهمة، وصلاحيات.
يجب أن تكون في أفضل أحوالها، لتكون للمؤسسة فعالياتها وآثارها. وليس من المصلحة أن يختل التكوين، ولا أن تهمش المهمات، ولا أن تقلص الصلاحيات.
لقد تواصلت المؤسسة مع الأحداث،منذ الدور الأول،وكانت فاعلة مؤثرة ومطاعة. وهي إذ لم تكن من السلطات الثلاث, فإن يدها تمتد إلى تلك السلطات كلها, تؤثر فيها, وتشاطرها مهماتها، وقد تحسم الشقاق في أخطر المواقف، وأكثرها حساسية. أما اليوم فقد تغيرت الأحوال, وتبدلت الأمور، ولم يعد لها كل الحضور الذي كان لها من قبل،ولا الهيبة،ولا التسليم المطلق, وحقها أن تستعيد ذلك كله، أو يعاد لها, ولاسيما أنها ملء العين لدى السلطة. وإذ لا نريد لها الهيمنة المطلقة، فإننا لا نجد بدًا من حضورها الفاعل, لحسم الخلاف،ورأب الصدع, وحفظ جناب التوحيد, والتقريب بين وجهات النظر. وهي اليوم تواجه مستجدات عصيَّه بإمكانيات ضئيلة، ولقد تكون المستجدات العربية أكثر صعوبة،بعد الربيع العربي, الذي أطلق الألسنة، وكفل الحريات، وفصل بين السلطات.
وفوق هذا فإن حوار المذاهب الإسلامية الذي دعا له خادم الحرمين الشريفين،ولقي استحسانًا من كل الأطراف, يتطلب مؤسسة دينية مستوعبة لكل الخطابات. وعند قيام الحوار, ستكون مسؤولية المؤسسة الدينية صعبة, لما تتطلبه الحالة المستجدة من امكانيات معرفية, من أهمها الفقه المقارن, والتضلع من علم الكلام، وتاريخ الحضارات.وتلك الأولويات قد لا تكون متوفرة بالقدر الكافي لدى بعض الأعضاء الفاعلين, وحين لا تتكافأ الإمكانيات مع المتطلبات, يختل التوازن, وتنكشف الساحة، ويملأ الفراغ من يتحقق بوجودهم انتزاع العلم، إذ العلم لا ينتزع انتزاعًا من صدور الرجال.
ومثل ما سبق فإن المشهد الفكري مقبل على ما يسمى بـ[مقارنة الأديان], وتلك الظاهرة المعرفية تتطلب قدرات استثنائية ونوعية, تربط على القلوب, وتثبت الأفئدة. وحين لا تدار تلك النازلة بقدرة استثنائية, تكون مدخلًا من مداخل الزندقة والإلحاد،لتفاوت القصص, وتزاحم الأساطير والإسرائيليات, وتعارض المناهج العلمية مع الرؤى الدينية. مع أنه لا تعارض بين المعقول والمنقول،ولا بين العلم والدين.
ومن المعضلات أن البنية السكانية في المملكة تتسم بخصوصية لم تكن لغيرها. فالعنصر الشبابي فيها تتجاوز نسبته الستين بالمئة. والشباب لهم رؤيتهم واهتماماتهم،واسلوب التعامل معهم،إنَّهم استشرافيون، مندفعون،متسائلون, عاطفيون. فتلكم [عائشة] أم المؤمنين -رضى الله عنها -, تقول في عنفوان شبابها:- [أو يعلم ربي ذلك] -إن صح هذا الخبر التاريخي -.
لقد لحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وهي لم تبلغ الثامنة عشرة من عمرها، وبهذه السن كان لها أسلوب حياة،يختلف عن كافة أساليب أمهات المؤمنين, ومع ذلك وسعها خُلُق الرسول صلى الله عليه وسلم، إذ جاء لها بالجواري المغنيات، وأوقفها على الأحباش،وهم يرقصون، وسابقها، ومنحها من الرعاية مالم يمنحه أحدًا من نسائه, حتى كانت بهذه المداراة أفقه الأمهات, وإن كان حديث: -[خذوا شطر دينكم عن الحميراء] لا يصح، ومن ثم كانت بهذه الرعاية الاستثنائية الأكثر حضورًا في عصي المسائل, وعصيب المواقف، بأبي هي وأمي. وما لم تكن المؤسسة الدينية في مستوى تلك الأحداث والسمات والمطالب، فإنها لن تجد مكانا في السياق، ولا في الأنساق, ولا في النفوس. وفراغ المشهد من حضور المؤسسة الفاعلة في ظل هذه الظروف، مؤذن بفساد كبير، فهذا الزمن في ظل تلك الإمكانيات المذهلة يتكشف عن أشياء يشيب من هولها الوليد, ويحار في متاهاتها القطا،وهي أشياء تهز الثوابت, وتكشف عن زيف المسلمات،التي كان الناس يسترخون عليها, كوسائد من ريش, ثم يغفون هادئين مطمئنين, بدون أحلام مزعجة. والوقوف في وجه هذا الطوفان يتطلب قدرات مناسبة, فالحديد لا يفله إلا الحديد, والمؤسسة الدينية المتآكلة من الداخل, بحاجة إلى إعادة صياغة, يراعى فيها الوضع العالمي, والتنوع المعرفي، والتعدد الطائفي، والتناكف المذهبي،والتفلت القولي. وفي النهاية فأنا من أمتي في السراء والضراء، ولست ضدها، ولكنني مضطر لكي أكون كـ[دريْد بن الصمة ] شاعر غزية, الذي يتأوه معلنًا ولاءه لقبيلته في حال قبول نصيحته أو رفضها، وقد عبر عن ذلك بالرشد والغواية:
[أمرتهم أمري بمنعرج اللِّوى
فلم يستبينوا النصح إلاضُحى الغد
فلماعصوني كنت منهم وقدأرى
غوايتـهم وأنني غير مهتـدي
وهل أنا إلا من غزية إن غوت
غويت وإن ترشد غزية أرشد]
والغواية هنا لا تعني الضلال، وإنما تعني تغليب المفضول على الأفضل، جمعًا للكلمة, ورأبًا للصدع، وتغليبًا للمصلحة.
والمؤسسة بوصفها مصنَّفة من أعدائها،مستهدفة من خصومها, مُنْشَقٌ عليها بعض المحسوبين منها, فإن أمامها مسؤولية تصحيح المفاهيم والتصورات عن رؤيتها،وتجديد مسارها، بما يوائم العصر، ولا يلغى المهمة.
لقد اجترحت طائفة من الباطنية جرائر التسميات, في سبيل تحقيق الإدانة،وأعطيت طائفة منهم بسطة في البلاغة،وشطرًا من قلة الحياء، ومُكِّن لطائفة منهم اختراق أجواء أهل السنة والجماعة, وفيهم سَّماعون لهم. فـ[الوهابية] مصطلح أطلق على علماء نجد, وحددت ظلما وعدوانًا مهماته ومقاصده في التطرف والتكفير, ولقد تلقى هذا الإفك العظيم [العلمانيون ] و[اللبراليون ] و[المتصوفة ] و[المغفلون] و[ من في قلوبهم مرض ]،وصدقوا الفرية, واتخذوا موقفًا ضرارًا من علماء أجلاء،ضالتهم الحق، وليست لهم مذهبية تفصلهم عن كتاب الله, وسنة رسوله،وسيرة السلف الصالح, وما كان عليه الأئمة الأربعة. وإن كان ثمة تجاوزات أو تطرف في الآراء من بعض المنتمين لهذه الدعوة المباركة, فتلك جرائر, يَحْسِم شأنها قوله تعالى:- {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخرَى} [فاطر:18].
وقوله تعالى:- {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنبِهِ} [العنكبوت: 40].
والعاقل لا يزكي نفسه, فضلًا عن أن يزكي غيره، والحي لا تؤمن عليه الفتنه، ولا يفوت النفسَ الأمارة، والشهواتَ، والغرائزَ, والأهواءَ, والقرينَ، إلا من لحق بالرفيق الأعلى،وهو على ما كان عليه محَمدٌ واصحابه.
إن طائفة من علمائنا الأفاضل على وعي تام بما يجري في كافة المشاهد، وواجبهم ترجمة مواقفهم إلى فعل رشيد، وقول سديد, فالأمة المستهدفة بأمس الحاجة إلى تغيير ما في الأنفس, ليفي الله بوعده في التغيير إلى الأحسن. ولن أدخل في التفاصيل، ولن أضع تصورًا لما يجب أن تكون عليه المؤسسة، ولن اجترح رسم خريطة طريق، تمشيًا مع:-
[وفي النفس حاجات وفيك فطانة
سكوتي جواب عندها وخطاب]
إن المؤمل من كافة مؤسساتنا الدينية،والتربوية، والأمنية، والإعلامية أن تعيد النظر في كافة مناهجها وآلياتها, لتكون حاضرة بندية،وقادرة على أن تكون في مستوى مانحن عليه من إمكانيات: حسية ومعنوية، غير أن مراجعة إمكانيات المؤسسة الدينية من الأولويات التي لا مناص من أخذها بقوة وثقة، فلنتوكل على الله {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق: 3].