عندما تصعُب الحال، يفرض الذهن على صاحبه ليستريح ويستجمع نفسه، أن يعود لما قد سمعه من حكاوى أو دعابات أو غيرها من مواقف تُسري عنه، وحالنا أعادتني لمقولة الممثل المشهور في مسرحية مدرسة المشاغبين متذمراً ومستغرباً من معلمته
وهي تطالبه بالوقوف وهي تحدثه: بعد أربع عشرة سنة خدمة في ثانوي، «بتقول لي أقف».. أتذكرها وأنا أسمع كثيراً من ملاّك المدارس الخاصة بعد أن وجدوا ألا مناص من تطبيق تعليمات خادم الحرمين الشريفين - حفظه الله - بزيادة رواتب المعلمات، يُطالبون بإجراء اختبارات قياس للمعلمات المنكوبات في حظهن وجور الزمان عليهن قبل توقيع العقود معهن واللاتي لا يجدن من يستمع لهن، ولم يسعفهن الحظ بابن عم يُسهل عملية توظيفهن في القطاع الحكومي، فبعد سنوات الخدمة الطويلة في التدريس والتنقل من مدرسة لأخرى وكل إفرازاتها ومكتسباتها وما تعنيه، لا تزال المنكوبة مطالبة باجتياز اختبارات القياس، وكأن ما مرت به طوال مدة تدريسها لا يعني شيئاً.
الحقيقة، أمر محزن أن تمر من نعوّل عليها - بعد الله - في تنشئة جيل يحمل همومنا وطموحاتنا إلى هذا الحال من التعامل وعدم التقدير وضعف الاهتمام، فدورها لا يقتصر على منهج تربوي تزرعه في أرواح طالباتها، لكنها قبل الأمر وبعده أم تربي كل أفراد أسرتها على منهج يحقق لنا ما نتطلع إليه من رفعة وسمو وقيم مثلى.. وأشعر بعظم الغصة التي تشعر بها كل معلمة ذنبها أنها اختارت بإرادتها أو فرضت عليها ظروف مجتمعها أن تكون معلمة، ومطالبة بتعليم وتربية جيل لا أدري كيف سيكون وحال من يُعلمه هكذا يحيط به الإحباط والقهر والشعور بالظلم ويعامل كآلة لا روح ولا إحساس فيها.
التاجر، وهذا حال غالبية من يستثمر في مجالات التعليم والتربية، وحال غالبية تجارنا للأسف وهم لا يجدون من يقول لهم: قفوا فقد تعديتم حدود المسموح به، لا يُراعي شيئاً غير مربحه وزيادة ماله، والنتائج التي تترتب على غايته هذه لغيره أو لمجتمعه لا تعنيه ولا تهمه من قريب أو بعيد، فالهدف واضح، الربح ولا غيره، والتوسع في الربح بقدر المستطاع باستغلال الممكن وغير الممكن، واستحداث ما يطوع الظروف للوصول لغايته، فلومنا له تحصيل حاصل، لن يغيّر من أمره ولا فكره ولا حدود وطبيعة حركته، وهو يؤمن أنه بدل المعلمة سيجد ألفاً غيرها ينتظر، فسوق المعلمات يعج بالكثيرات العاطلات والباحثات عن العمل، وبدل الطالبة ألف طالبة تدفع الرسوم، ويُفرض عليها أي زيادات فيها دون التعهد بما يتوافق مع كل ريال تدفعه الطالبة غير التهاون في مسألة تحصيلها العلمي، وتسهيل الكذب عليها وعلى مجتمعها أنها تخرجت وبتقدير متفوق، ليصدم المجتمع بها واختبارات القياس تقيس صِدق ما أتت به.. فالأمور بالنسبة له لا تتعدى مصدر ربح واستثمار للمال لا علاقة له بكل ما نسمعه عن التربية والتعليم وإن أشار الاسم والمجال لهذا، والبداية كانت في زيادة رسوم تسجيل الطلاب، يعني يأخذ تجار التعليم بالشمال من أولياء الأمور، ليعطوا بعضه لبناتهم المعلمات بالشمال، ويستفيدوا من أكثره، فالمسألة مسألة ربح لا أكثر ولا أقل من هذا.. وعندما يفقد الإنسان وخز هذا المدعو بالضمير فلا تستغرب أن ترى منه كل ما لا يمكن أن يخطر على بال سوي.
أختم بسؤال بريء جداً، كيف يُطلب من معلمة أن تفي بجدول قوامه 24 حصة وربما تزيد بحسب رغبة المالك بالتوفير والكسب، وترتبط بنشاط إلزامي إما في نشاط مصلى أو غيره، وعليها أن تفعل ما تخترعه إدارة التوجيه والإرشاد من نشاطات ومناسبات وطنية واجتماعية، ناهيك عن الأيام العالمية كيوم الأم، وتُلزم بإعداد المعارض لمادتها ونشاطات أخرى بعيدة جداً عن دورها الأساسي المتمثل في تدريس المادة، وتصرف أكثر من نصف راتبها على هذه النشاطات.. إن لم تكن معلماتنا غير الحكوميات مستوردات من كوكب المريخ بمواصفات غير إنسانية خاصة يفهمها فقط موجهات إدارات التوجيه الحكوميات اللاتي لا فائدة من وجودهن غير زيادة همّ المعلمات، نسيت هذه الموجهة وهي تتابع بلذة ما يحصل للمعلمات، أنها كانت في يوم ما تشتكي ما يشتكين منه، وهي الأقرب لكشف معاناتهن، لكن الجلوس على كرسي الوظيفة الحكومية، لا يحقق في الغالب غير هذا التبلد والكسل، وعدم الرغبة في تغيير الأمور، فتبقى على ما وجدت من سبقها عليه تُمارس نفس دور الضغط والتهميش لإنسانة تحترق في النهار دون أن تجد من يعينها، بل ونطالبها بأن تربي جيلاً نرى بوادر انحرافه بما نصنعه من تجمد عقولنا وسلبيتنا لا أظن أنني سأجد الجواب، وإن كنت أتوقع الكثير من التبرير لما يحدث.. والله المستعان.
naderalkalbani@hotmail.com