في أمسية جمعت أشتاتاً وربما أضداداً من التوجهات الفكرية والتخصصات العلمية، دلف إلى المجلس متخصصٌ بالآثار فرحب به أحد الحضور ممازحاً بأن غبار السنين وتحفتها قد حضر، فرد شاب يبدو عليه الحماس لتخصصه الشرعي بأن التعلق بآثار الأقدمين وبقايا تاريخهم قد يقود لسلبيات شرعية وربما وثنية، ودار حديث ومداخلات سريعة حول المسألة قطعها قدوم مدعو آخر والدخول في أحاديث مغايرة لعل البعض قصد منها الخروج من تشعبات قد تطول بلا فائدة، ودفعني الفضول للعودة للقراءة عن آثار الغابرين وحديث القرآن الكريم عنها، فالقرآن حثّ على السير في الأرض والاستبصار والاعتبار من الأمم الغابرة، دون تعظيم لها ولا لأفعال من أتى بأفعال ضالة شنيعة وعبادات وثنية، والاستبصار والاعتبار قد لا تتم مقوماته وتستقيم جوانبه إلا بمشاهدة بقايا وآثار القوم من نقوش ورسوم ومساكن منحوتة ومنصوبة، مما يعني أهمية الإبقاء على الآثار وحفظها وصيانتها مع الاستمرار بالتوعية والتوجيه بهذه المقاصد القرآنية وحكمة الله وسننه في خلقه وما جرى لأمم سبقتنا، ولإبقاء هذه الآثار والرموز مصانة من العبث يلزم المتخصصين في هذا الفن من علوم الآثار أن يضعوا في اعتبارهم مقصد الانتفاع والاستفادة والاتعاظ من تجارب الآخرين وعلوم السابقين، والحذر الشديد من تكريس ما قد تفهم الأجيال منه أنه رضا عن أفعالهم الشركية ومعصيتهم لله ولرسله.
ووجدت من أقوال علماء ومختصين رأيهم المؤيد للاتجاه لدراسة حقائق و(معلومات) القرآن والأحاديث المرتبطة بها في ضوء معطيات علم الآثار وكشوفاته التي أدت وتؤدي إلى فتح آفاق جديدة لفهم حركة التاريخ البشري وتطور الحضارات، إذا ما اتجهت حركة علم الآثار إلى أسس تتماشى وتنسجم مع ما جاء في هذه الحقائق و(المعلومات) القرآنية لنكون أمام براهين حسية ملموسة يصدق عليها ويؤكدها ما ورد في آيات الذكر الحكيم، كقوله سبحانه في الآية 49 هود: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا} الآية، فالقرآن يهدف إلى هداية الإنسان إلى الله سبحانه وتصحيح معلوماته عن التاريخ والكون وتنقيتها مما نُسب إليها وتعرضت له من تحريف وتغيير في تدوينات عبر القرون والعصور السابقة لنزول الوحي على رسول الهدى وخاتم الأنبياء، وبيَّن القرآن الكريم مصارع الأمم الغابرة وصور العذاب الذي حاق بها وسنن الله الماضية في الأمم والاعتبار بها، ولنحذر مما أوجب عليهم العذاب، وفي العقود الدرية يقول ابن تيمية: إنما قصّ الله علينا قصص من قبلنا من الأمم لتكون عبرة لنا فنشبّه حالنا بحالهم ونقيس أواخر الأمم بأوائلها، فيكون للمؤمن من المتأخرين شبهٌ بما كان للمؤمن من المتقدمين، ويكون للكافر والمنافق من المتأخرين شبهٌ بما كان.
وهل تُصاب هذه الآمة بعذاب الأمم السابقة؟ قال المفسرون إن الله قد أصاب الأمم الغابرة بصنفين من العذاب: أحدهما يستأصل الأمم.. والآخر يزلزلها ولا يفنيها، وذهب أهل العلم إلى أن النوع الأول قد رفعه الله جل شأنه عن البشرية ببالغ رحمته، كما قال في الآية 45 من فاطر: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِن دَابَّةٍ} الآية.
t@alialkhuzaim