** كان أستاذُنا في تأريخ الشرق الأدنى القديم الدكتور محمد بيومي مهران صعيديًا مرحًا يميل لونه للسمرة، وكان يقول لنا في السنة الجامعية الأولى حيث درَّسنا: إنه لو سافر إلى أميركا لصار لونُه أفتح فجاء أبيضَ مشربًا بحمرة، وكدنا نصدقُه لولا أن المادة الأخرى في جغرافية البيئة “الإيكولوجي” التي تزامنت دراستنا لها مع هذه المادة في العام ذاته لم تسند نظريته.

** تندّر من تندر وساير من جامل أو تجمّل، وبقي أستاذنا ذا شخصيةٍ لطيفةٍ حازمةٍ، وكان متمكنًا في تأريخ مصر القديم تحديدًا؛ فوعينا منه شيئًا ونسينا أشياءَ، وبقيت حكايةُ التغيير البيئيّ حاضرةً في أذهاننا، ومعها بيتا أبي الطيب اللذان تساءل فيهما عن الشمس التي تبدل ملامح البياض إلى سواد ولا تفعل ذلك مع شعر الرأس والوجه، وهو استفهامٌ له ما وراءه من تحليل وتعليل:

تُسَوِّدُ الشّمسُ منّا بيضَ أوْجُهِنَا

ولا تُسَوِّدُ بِيضَ العُذرِ وَاللِّمَمِ

وَكانَ حالهُمَا في الحُكْمِ وَاحِدَةً

لوِ احتَكَمْنَا منَ الدّنْيا إلى حكَمِ

** وفي مقابله كان أستاذ مادة البيئة هو الجغرافيّ السوري المعروف الأستاذ محمود شاكر ( وهو غيرالمحقق العلامة المصري أبي فهر)، ويذكر صاحبكم أنه قد حاول تطييبَ خاطره حين رآه منفعلًا لأمرٍ يمسُّ تعاملًا لقيته ابنته الصغيرةُ من مَدرستها ومُدرستها، وسندَ ملاطفته له بطبيعة أبناء الصحراء الذين يُخفون الودَّ حتى يأمنوا الغريب؛ فإذا هم أحبابه الخُلَّص، واستدلّ بما يُعلمه لنا الأستاذ شاكر من تأثير البيئة السلوكي على ساكنيها.

** نموذجان متقابلان يؤكدان عمقَ العلاقة بين الإنسان والمكان، وهو ما يجعل سوءاتِ البيئةِ وحسناتها تنعكس على ساكنيها، وإذا تجاوزنا التأثير الشكلي الذي يتجذرُ عبر مورثاتٍ جينيةٍ فإن السلوكَ مرتبطٌ بالتربيةِ مثلما التربة، وهو ما يجعل أبناء الصحراء - ولو سكنوا المدن -سريعي التأثر قليلي التأثير، يتوجسون الخوفَ من الغد ويتوقعون الحيفَ من البعيد؛ فإذا قدم عليهم “الزمن أو الشخص” عرفوه وألفوه وربما عشقوه.

** قد يفسر هذا سرعةَ التوتر الذي تشهده وسائط التواصل الاجتماعي” العامةُ والإلكترونية” وفي مواجهته سرعة التأقلم والتبدل؛ فمن يرفض يرضى، ومن يثور يهدأ، وجاهزيةُ التصديق هي نفسها فوريةُ التصفيق، والميدان مفسوحٌ أمام من يسعى لتعديل المزاج الجمعي الصاخب المملوءِ بالضجيج والشك والاتهامات والقلق الذي يشهده العالمان الواقعيُّ والافتراضي.

** لم تعد في حياتنا المعلنةِ مساحاتٌ ممتدةٌ بالفرح والتفاؤل؛ حتى إن من يحاول التهدئة يبدو متصنعًا الهدوء، ومن يثني على إنجاز يتهم بالمداهنة، ومن ينأى عن الانتقاد الحاد يرمى بالسلبية وربما الجُبن؛ فخلت حياة بعضنا من إشارات ضوءٍ، وامتلأت مساراتنا بأرصفة العَتَمة، وغلب اليأسُ على الجيل الجديد؛ فهل نتفرج؟

** النهرُ لا يعبر الصحراء.

ibrturkia@gmail.com
t :@abohtoon