الأحداث التي عصفت بدول ما يسمى بالربيع العربي مؤخرا كردة فعل على فلم مجهول الهوية تعمد الإساءة للرسول عليه أفضل الصلاة والسلام أفصحت عن أمور كثيرة غير مباشرة سواء على الصعيد الشعبي أو السياسي، او الثقافي.
فمن أنتج الفيلم ليس له صلة بالحكومة الأمريكية التي يُتهم رئيسها بأنه مسلم يخفي إسلامه. الرئيس الذي استهل رئاسته بتحية الإسلام والمسلمين في أرضهم وفي أكثر من بلد. والرئيس الحالي يعتبره الأمريكيون الأكثر مهادنة للعالم الإسلامي، ويعتبره الإسرائيلون صديقا غير موثوق وغير مأمون بالرغم من تصريحاته المتكررة بدعم إسرائيل.
ولايخفى على العارفين أنه كانت هناك جهود جبارة من الدول العربية والإسلامية ومن الإدارة الأمريكية ولتحسين العلاقات وتلطيف الأجواء بينهم التي تشوشت كثيرا بعد أحداث 11سبتمبر، وتحسنت العلاقات فعلا على كافة الأصعدة، فأصبحت الفيز، على سبيل المثال، تمنح للسعوديين في ثلاثة أيام ولمدة خمس سنوات، ولم تبالغ الحكومة الأمريكية في الاحتفال كسابقتها بذكرى 11 سبتمبر. ولكنننا بسبب الأحداث الأخيرة أعدنا عجلة الزمن لسنوات إلى الوراء، ونجح أعداؤنا في نسف احتمال أي تطور في علاقاتنا مع الدولة لعظمى في العالم مستقبلا، وبدا وكأن الاحتفال بـ11سبتمبر هو رغبة الشعوب العربية والإسلامية ولأسباب، ولكن بطريقتها الخاصة. ولم تكن وزيرة الخارجية الأمريكية بعيدة عن الحقيقة عندما صرحت بأن أمريكا وقفت مع شعوب الدول التي أحرقت فيها سفاراتهم لنيل حقوقهم، لأن وقوف الإدارة الأمريكية مع الشعودب كان توجها جديدا للسياسة الأمريكية في الشرق الأوسط. وأمريكا حكومة وشعبا ليس لها دخل في إنتاج الفلم أو إخراجه، والرأي كما يقال يجب أن يسبق شجاعة الشجعان.
الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، الشخصية الأكثر تأثيرا في تاريخ البشرية لأنه رسول أعظم وآخر الرسالات السماوية، نحن لا نقدسه تقديس الرب لأننا أمة موحدة، ولكننا نمنحه في قلوبنا أعلى درجات التقديس البشرية. والشخص الذي أصدر الفلم صعلوك محكوم عليه بقضية اختلاس من بنك، وممثل البطولة في الفلم السيء الإخراج والتمثيل، ممثل أفلام إباحية محترف. أما بطلة الفلم فهي تعيش صدمة حقيقية لأنها كانت تعتقد أن تمثل في فلم آخر عن حياة البدو في سيناء قبل 2000عام، وهي بصدد رفع دعوى تغرير ضد منتج الفلم بعد وقوع ضحايا في أنحاء متعددة من العالم بسببه. فجمع هؤلاء المنحطين مع شخصية مثل الرسول في أكبر إساءة لمقامه الكريم.
وعليه لا يجب أن نضع الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام في المستوى ذاته مع شلة من الاوباش مثل هؤلاء، أي يجب ألا نجمع المقدس مع المدنس. وفي الواقع قد يكون خطأ كبيرا منا أن نثور بهذا الشكل لمثل هذه التفاهات، وأن ننزل بديننا هذه المنزلة مع أناس ينظر لهم على أنهم حثالة في مجتمعهم قبل أن تنظر المجتمعات الأخرى لهم كذلك. فكان الأولى بنا الترفع عنهم والنأي بنبينا عنهم. فلو كل كلب عوى ألقمته حجرا لأصبح الصخر مثقالا بدينار.
الأمر الآخر أننا أظهرنا للعالم بهذه التظاهرات والهجوم على السفارات أننا شعوب سهلة الاستثارة والاستفزاز، وهذا قد يفتح الباب على مصراعية لاستفزازات أكثر وأتفه مستقبلا. فقد يفهم كثير من يبيتون النية لإفساد علاقاتنا الدولية مع أي دولة عالمية أخرى أن الإساءة للإسلام والرسول على أية مستوى هي كعب أخيل في ثقافتنا التي يمكن أن يؤذوننا بشكل مستمر من خلاله. فالقس الأهوج الذي هدد بحرق القرآن، اشتهر على حسابنا، ونسي العالم ردود أفعالنا وتذكروه، فأصبح يكرر فعلته ويردد هذا التهديد بين كل فينة وأخرى. أنا أتفهم ردود الفعل القوية لو أن الإساءة للإسلام جاءت من البابا مثلاً، أومن رئيس دولة أو وزير خارجيتها بشكل علني، ولكن أن تكون هذه الردود على أناس تافهين فنحن حتما سنتعب أنفسنا ونفسد علاقاتنا والمصلحة دائما لأعدائنا.
والأمر الآخر المهم هو أننا كثير ما نسيء فهم الشعوب الغربية، ونصورها على أنها على استعداد لتلقف هذه الخزعبلات، ولكن هذا التصور مجافٍ للحقيقة، فالشعوب الغربية في مجملها ترفض الإساءة لأي معتقد كان، وتحتقر من يقدم عليه، وهي شعوب واعية ومتعلمة وتميز الغث من السمين. ويتكرر في وسائل الإعلام أن هذا الفلم قديم وسبق لدور العرض أن رفضته لرداءة صنعته وسوء مستواه. ولكنها اليوم، وقد تكون معذورة في ذلك، ستتسابق لعرضه لأنها جهات ربحية ونحن منحناها دعاية مجانية لا تقارع.
والخطير في الأمر أن ردة فعلنا التي تجسدت في مظاهرات غضب العارمة غير مقيدة وغير منضبطة، وحدث فيها التعرض بالعنف العشوائي لمصالح وجهات غير مسئولة عن الفعل الأصلي، ونقل هذه المشاهد على وسائل الإعلام قد تعكس أمرين خطيرين في نظرة العالم لنا: الأول، أنها تظهرنا بمظهر الشعوب غير العقلانية التي تحتج بصورة فوضوية ضد جهات بريئة، والثانين وهو الأخطر، أنها قلبت ظهر المعادلة وأظهرتنا على أننا نحن المعتدين الظلمة على ضحايا بريئة، فالمشاهد التي تعرض على جميع القنوات العالمية هي مشاهد حرق وتدمير وقتل لبعثات دبلوماسية مستأمنة لا ناقة لها ولا جمل في الموضوع، ولم تظهر أي وسيلة إعلام صورا لمن أنتج وأخرج الفلم، لأننا بأفعالنا المتتابعة لم نتح فرصة لذلك. وعليه يجدر بنا أن نتساءل لماذا أخذت الأمور هذا المنحى، ومن هيج الجماهير، وما طبيعة التهييج؟
الأمر على ما يبدو في هذه التظاهرات وسابقاتها ليس وليد قضية الساعة، ولا ردة الفعل الآنية، ولكنه لا يمكن أن يكون إلا نتيجة تراكمات وأحباطات سابقة. فإحباط الشعوب العربية والإسلامية كبير واستمر لفترات طويلة، وفي كثير من الأحيان أدمنا لوم إخفاقاتنا الداخلية على قوى خارجية حتى ولو لم تكن لها علاقة مباشرة بها، والغرب الذي يعكس صورة التطور والازدهار التي نرغبها في لا شعورنا هو من نتوجه له بهذا الغضب، لا سيما وأننا لا زلنا، في كثير من البلدان نعيش ذكريات تاريخ الاستعمار المباشر القديم، ونعتقد اننا لا زلنا نعيش تحت استعمار غير مباشر جديد.
الظروف العالمية تطورت وتغيرت، والعالم مر بطفرات صناعية واقتصادية وثقافية كبيرة ومتعابقة تجاوزتنا بمسافات طويلة بينما نحن لا زلنا متمترسين في عقلياتنا التي لا تتلاءم مع هذا العصر. العالم العربي والإسلامي أقل المستفيدين من الثورة العلمية والصناعية التي اجتاحت العالم قبل قرون، ناهيك عن الثورة العلمية الرقمية المعاصرة في التكنولوجيا والمعلوماتية والإعلام، واستثمرنا منتجاتها في نقل مباريات كرة القدم، وتمجيد الزعماء وخداع الشعوب، وأبراج الأيدول والمسابقات التافهة. العصر تجاوزنا ونحن نحس بذلك في قرارة أنفسنا، ولكننا بدلاً من نصارح أنفسنا بحقيقتها أصبحنا نخادعها بشتى محاولات الهروب من الواقع والتماهي مع الماضي، وهذا ما ولد لدينا نوعا من الحساسية الجمعية، نسبة للعقل الجمعي «لأميل دركهايم»، دفعتنا لردود الفعل المفرطة التي نشاهدها.
طبعاً لا يجب أن يفهم هذا الكلام على أنه دعوة للسكوت تجاه ما قد يوجه من إهانات لمسلماتنا ومقدساتنا الدينية ولحضارتنا وثقافتنا، ولكن دعوة لمعرفة أفضل السبل لمواجهتها، فهوليود في أمريكا أنتجت أفلاما صورتنا كعرب ومسلمين على أننا فئران، وشعوب أقرب للحيوانات المتوحشة، وهو النمط نفسه الذي صور هتلر به اليهود، اليهود تعلموا من مآسيهم وبنوا إمبراطوريات إعلامية استفادوا منها على جميع الأصعدة. أما نحن فاكتفينا بردود الفعل والصراخ الذي يفاقم من تعزيز الصورة السلبية عنا. العرب اليوم يملكون أموالا ضاقت عنها خزائن الأرض فماذا قدموا لتحسين صورة أمتهم وشعبوهم في الخارج؟ فهولويوود التي أنتجت الأفلام المسيئة للمسلمين، ومنها الفلم سيء الذكر، هي التي أنتجت أفلاما «كالرسلة» و»عمر المختار». ثروات الدول الإسلامية وللأسف أصبحت وبالا عليها وعلى صورتها في الخارج، انعكست في مظاهر بذخ معيبة يقرنها من يشاهدها بصور الشعوب الجائعة المستضعفة التي تستجدي المعونات من الخارج. فالصراع ثقافي وحضاري، ونحن لا بد أن نتعلم لغة الإعلام الحديث فالدواء من جنس الداء، ويحب لأن ندافع عن مقدساتنا وصورتنا أمام العالم بأساليب راقية «مقدسة»، وألا ننزل إلى مستوى أساليب هؤلاء السفلة «المدنسة». فديننا أكثر الديانات تسامح وعدل، ونبينا قدم أنقى صور الإنسانية للبشرية، ولكن العالم الخارجي للأسف لا ينظر في عقولنا ليعرف ما هي صورته في أذهاننا أو صورتنا عن أنفسنا، ولكنه ينظر لنا ويقيمنا من واقعنا ومن واقع تصرفاتنا.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif