لعلّنا في هذا الوطن ومنذ النشأة وحتى اليوم لا زلنا نستخدم مصطلح (النامي) لوصف حال أو واقع وطننا، وقد يتساءل أحدنا قائلاً: أمن ثمانين عامًا ولا زلنا ننمو؟ أم نبلغ الفطام بعد كل هذه العقود من السنين؟
بلى، بلغنا تقدمًا هائلاً دثَّر الماضي وبدَّل الصورة،
ولم تُعدُّ معالم الأماكن كما قبل عقدين أو ثلاثة، فما بالك بخمسة أو تسعة عقود، المؤكد أن الماضي البعيد لو استقدم أحد معاصريه لواقع الحاضر لربما، شهق فمات، (استعارة من كتاب قصص العشاق) من حالة التغيّر والتبدَّل التي طرأت وغيَّرت الصورة بقوة عظيمة لا يتحملها عقل الإنسان بشكل فجائي، لكن لو أمهله الله قليلاً ليتحدث مع أحد من أفراد المجتمع فربّما يسترد وعيه وعافيته، فلن يجد في الغالب تغيرًا أو تطوَّرًا في الوعي والفكر والسلوك يختلف كثيرًا عمَّا مضى، وبالتالي فلن يشهق ويموت هذه المرة، فجوهر الإنسان لا زال كما وإن تغيَّر مظهره طبقًا لتغيّر ما حوله، تمامًا مثلما تفعل بعض الحيوانات التي وهبها الله سبحانه وتعالى هذه الخاصية لحمايتها، فكذا نفعل اليوم من خلال عمليات الإيحاء بالتمدن والتطوّر عن طريق الاستحواذ والامتلاك، فنركب العربة ذات التعقيد التَّقني ونحمل أجهزة الاتصال ذات التعقيد التَّقني ونستخدم الأجهزة ذات التعقيد التقني، وننعم بِكلِّ ما ينتجه البشر دون أن نفكر ولو للحظة أن نكون مثلهم، لأننا وببساطه اكتفينا بالمظهر عوضًا عن الجوهر، فكأننا لم نتقدم ولو خطوة واحدة للأمام وكأننا لا زلنا في حالة نموٍّ يبدو أنها مستديمة، باختصار تقدمنا مدنيًّا بفعل وجهد غيرنا في العالم المتحضر ولا زلنا ننمو منذ ثمانين عامًا في مسار التمدن ولم نتحضر مع الآخرين حتَّى الآن.
وبين التمدن والتحضر فارق كبير مثلما الفارق بين المظهر والجوهر، ليس إعجازًا أن تركب على متن طائرة نفّاثة لكن الإعجاز أن تفكر بعقلك مثلما فكر صانع هذه الطائرة، نلمس بعض صور من ذلك في واقعنا اليوم بِكلِّ أسف، فبينما صرنا نملك اليوم أدقّ التقنيات ووسائل تسهيل الحياة إلا أننا لا زلنا نصرّ بوعي وعقل الجهل والتخلف أن نكون حذّرين ومتوجسين من أن تُقدم هذه المكتسبات المدنية على تطوير وتغيير وعينا وقناعاتنا التي ألفناها واعتدناها نحو أفق أعلى في الفكر وأوسع في الوعي، نتجنبه باستمرار ونخشى خوض غمار الفكر والعقل تحت مبررات الخصوصية والتميز، هذه الخصوصية وهذا التميز الذي لا يمكن أن يتطوّر ويترقى إلى تحضر ما لم تتطوّر قناعاتنا وثقافتنا ويظهر إثر ذلك في سلوكنا وأخلاقنا، ومع أنه قد لا يختلف اثنان في أن العقل يهذب الخلق إلا أننا نمارس العكس، باعتبار أن الخلق والسلوك ظاهر ومشاهد بينما يحتاج الرأي والفكر إلى عقل مماثل لينسجم معه، ولأننا فقراء في ذلك فقد استعضنا في النموِّ على التمدن بدل التحضر، وكان أن ساعد ذلك في ترقية المظهر على الجوهر والاستعاضة عن الإنتاج بالاستهلاك، وكل ما يساق من تبريرات بهذا الشأن كالثوابت والخصوصية والأعراف والتقاليد هي في حقيقة الأمر أغطية وسواتر لإخفاء عجز هذه العقول عن النموِّ في الرقي والتطور، مثلما كانت تفعل إمبراطوريات الكنائس في أوروبا لحماية مصالحها ضد الثورة الحضارية.
نحن في حاجة إلى تجديد الإيمان بحق الإنسان في استخدام عقله، وإيمان بحريَّة الإنسان في الاختيار، وإيمان أقوى بأن العلم هو أحد المعجزات الدالة والهادية للحق، لنبدأ مرحلة النموِّ الحقيقي بالفرد والمجتمع والأمة، نحو تحقيق حضارة تليق بنا كأمة تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ليس بإدارة ورقابة سلوك النَّاس ولكن بالإيحاء والاقتداء، بالمثل والقيم العليا في الإنتاج المفيد للبشرية أخلاقيًّا وثقافيًّا وفكريًّا وعلميًّا وفي كلِّ ما يخدم أمن وسلامة الإنسان وحقه في الحرية والكرامة دون تمييز بلون أو جنس أو دين، وفي هذه الحالة لن نستهلك عقود السنين سعيًا في النموِّ الشكلي دون تقدم يغني ويحمي، بل سيكون مسار النموِّ الحضاري مليئًا بالمحطات المضيئة المتلاحقة، فنكون بهذا خدمنا وحمينا بشكل فعَّال ومفيد الثوابت والخصوصية التي نعتز ونفتخر بها، نحن بمشية الله نحميها متى تخلصنا من جهلنا وخوفنا واستجدائنا لها لتحمينا هي كل ما جدَّ مستجد.
النموُّ إذن في التمدن والمدنية لن يقدم تطوّرًا أو ترقيةً إلا في المظهر الذي لا يغير من واقع الحال شيئًا، بينما يعمل النموَّ الحضاري على تقدم وتطوّر الواقع والحال بشكل جوهري إلى ما هو أرقى وأفضل، الأمر ببساطة شديدة هو.. أن الإنسان ذاته هو الذي نريد نموَّ تحضره أما نموُّ مدنيته فقد تَكَفَّل بها المتحضرون.
Hassan-Alyemni@hotmail.comTwitter: @HassanAlyemni