الجميع يعرف الحروب الصليبية، قرأنا عنها في المدرسة وتعلمناها. الذي أشعل شرارة تلك الحملات الخبيثة هو البابا أوربان الثاني في شعبان من عام 489هـ، فأخذ يخطب الناس والملوك ويحثهم على أخذ بيت المقدس من المسلمين، واستجاب له الأوروبيون فحشدوا جيوشهم من مختلف الدول وزحفوا نحو بيت المقدس وحاصروها وأعطوا أهلها الأمان، فلما استسلموا غدروا وقتلوهم مقتلة لم يكد التاريخ يرى مثلها آنذاك راح ضحيتها عشرات الألوف من المسلمين، ولبثت معهم حتى أتى البطل الكردي صلاح الدين الأيوبي ففتحها الله على يديه، وظلت المنطقة بين شد وجذب بين المسلمين والنصارى على مر العقود، فأرسل النصارى حملة صليبية ثانية وثالثة وهكذا، وكل حملة لها أهدافها ولم تكن كلها لاستعادة بيت المقدس، وتوالت الحملات إلى الحملة التاسعة والتي كانت آخر الحملات الكبيرة ورجعوا مدحورين ولبثت أراضي الشام مع المسلمين إلى اليوم ولله الحمد.
لكن الشئ الغريب الذي لم يمر على أغلب الناس هو حملة عجيبة فريدة من نوعها، وهي حملة صغيرة لم تكن ذات شأن، ربما لأن كامل «الجيش» تَكوَّن من الأطفال!
نعم، في عام 609هـ تجلّى الشيطان في المنام لطفل فرنسي ابن اثنتي عشرة سنة اسمه ستيفن وطلب منه أن ينشر النصرانية بين المسلمين، فاستيقظ الطفل وهو لا يشك أنه رأى عيسى -وهم يؤلّهونه، تعالى الله عما يقولون-، فأخذ الطفل يحشد بقية أطفال القرية والذين شعروا ببعض الخزي مما فعله أسلافهم والذين لم تتوقف أفعالهم على المجازر والتعذيب، بل وصلت لأكل لحم البشر، وذلك في الحرب الصليبية الأولى، وهي أول حالة سجلها التاريخ لهذا الفعل الشنيع، فقرروا التنصير بدون مذابح هذه المرة، فلما اجتمع عدد كبير من أطفال ألمانيا وفرنسا وبدأت القرى تخلو من صغارها اتجهت الحملة نحو بيت المقدس، وكانوا متفائلين لأن قائدهم الطفل ستيفن قد ظهر له الشيطان مرة أخرى في المنام وأقنعه أن البحر سينشق له ليعبروه، لم تلبث الرحلة طويلاً إلا وبدأ الواقع يظهر لأهل الحملة، فقد كانت الرحلة شديدة المشقة، ذلك أن الصيف تلك السنة اشتد حره جداً على غير العادة، ولم يكن معهم كثير مال أو طعام فعاشوا على تبرعات الناس وبقاياهم، وعانت المناطق من جفاف فاختفى الماء وعانوا في البحث عنه، ولما اجتمعت هذه العوامل قتَلَت معظم أهل الحملة، ووصل القليل ممن بقي منهم إلى البحر ووقفوا أمامه ينتظرون المعجزة الموعودة ولم يحصل شيء. طال انتظارهم ولم ينفلق كما انفلق لموسى عليه السلام. بدأ الإحباط والشك يدب فيهم حتى أتى تاجران وعرضا أن يحملا الفتيان إلى بيت المقدس بالقوارب ففرحوا ووافقوا، غير أن التاجرين غدرا وباعا الفتيان كعبيد في مكانٍ آخر، ونجح بعضهم أن يفروا بالقوارب يحاولون الوصول لبيت المقدس، ولكن مع عدم خبرتهم في البحر فقد غرقوا جميعاً، وهكذا فقد الأهل كل خبر عن أطفالهم لمدة 18 سنة حتى لما وصلهم العلم أخيراً اتجهوا نحو والد أحد الغلمان - وكان الرجل ممن شجع الصبية على الذهاب - وقتلوه أمام بيته!
أثّرت هذه الحملة على النفسية الأوروبية فألّفوا حكاية خيالية يقصونها على أطفالهم يقولون إن موسيقاراً أتى المدن الألمانية وسَحَر الأطفال بمزماره فخرجوا جميعاً ولم يعودوا، وهذا ما أفقد المدينة أطفالها.
أما الحقيقة فهي أن تلك الحملة التي يسميها المؤرخون «حملة الأطفال الصليبية» انتهت بفشلٍ كامل، وكفا الله المسلمين شرها وله الحمد.