الشعب الأمريكي -كما هو معروف- من أكثر الشعوب عشقاً للمال وسعياً وراء الشهرة، ولا عجب، فالمادية هي أساس حياتهم، ونشأوا على هذا منذ مئات السنين، ومن يتابع ثقافتهم يجد أعاجيب من هذه الأمور، كثيراً ما تكون منحطّة أو منفّرة، وأحياناً فريدة تثير الاستغراب، ومن هذه تجربة شارك فيها أحدهم لقضية طيبة لكن أظن هدفه الأهم كان المزيد من الشهرة، وهذا من حسن حظنا، لأن التجربة أفادتنا وإن كانت بغير قصده. بيتر تريب عمل مقدماً لبرامج المذياع في الخمسينات من القرن الماضي. في عام 1959م قرر أن يشارك في إحدى الحملات الخيرية وذلك بأن يبقى مستيقظاً 200 ساعة، أي أكثر بقليل من 8 أيام متواصلة، والفكرة مشابهة لحملات «واكاثون» التي طريقتها أن يقام سباق كالماراثون ويتقدم المتسابق إلى أناس يعرفهم وينبئهم بذلك، فيقول له أحدهم «سأتبرع بدولار مقابل كل ميل تمشيه» وآخر يعرض 3 دولارات لكل ميل وهكذا، وأما بيتر فكانت الفكرة أن يتبرع الناس مقابل كل ساعة يقضيها مستيقظاً، ولكي يضفي المزيد من المصداقية فقد عزم أن يكون على الهواء مباشرة في برنامجه المذياعي، وكذلك جلس في غرفة ذات جدار زجاجي يراه المارون في ساحة تايمز الشهيرة في نيويورك. بدأت التجربة ومر أول يوم من السهر المتواصل بلا مشاكل ومن ثم ثاني يوم وبعد بضعة أيام بدأت العلامات تظهر، ففي اليوم الرابع اختل تفكيره وخرج للشارع يجري ولحقه المسؤولون وأعادوه لمكتبه، واستعانت المحطة بأطباء نفسيين لمراقبته، فلاحظوا أنه لما اقتربت الأيام الثمانية من نهايتها بدأ بيتر يُظهِر علامات الاضطراب، فأول ما ظهر عليه هو الهلوسة، فكان يتخيل أشكالاً وأصواتاً كأنها حقيقة، وصار عنده نوع من الارتياب فكان يظن العاملين مِن حوله يخدّرون طعامه بالمواد المنومة ليحثّوه على النوم، ولم تزدد الأعراض إلا سوءاً، وهذه أكدتها الفحوص التي كان يجريها الأطباء على بيتر فكانوا يصورونه كل يوم ويأخذون حرارته ويفحصونه، فرأوا أن حرارته هبطت وأنه بدأ يصاب بجنون الشك (بارانويا)، وفي آخر يوم وضعوا أقطاباً كهربائية موصولة بأسلاك على جبينه وراقبوا حركة الإشارات في مخه، فرأوا موجات مخه تشير إلى أن المخ نائم بينما بيتر مستيقظ! هذا ما أشار إلى أنه شارف على الجنون، والمدهش أنه استمر مكملاً برنامجه الإذاعي، ولا ندري كيف فعل هذا وحتى الأطباء أذهلهم ذلك! في آخر سويعات وصل لدرجة من الاضطراب ظن فيها أنه ليس بيتر بلحتال يتقمص شخصية بيتر الحقيقي، وانتهت بعدها التجربة بعد أن ظل بيتر 201 ساعة بلا نوم، ولما رجع لبيته ألقى جسده على الفراش ونام نومةً عميقة لم يفارقها إلا بعد 24 ساعة متواصلة. لكن لم تنتهِ التجربة فعلياً، فهذا الحرمان من النوم أثّر على عقله وغيّر شخصيته، فكثرت مشاكله في العمل والحياة، فطلّق زوجته وفُصِل من عدة وظائف، وظل يحاول أعمالاً متفرقة إلى أن توفي عام 2000م عن 73 سنة.
تجربة بيتر تعطينا درساً هاماً: تستطيع تحَمُّل الجوع، تستطيع تحمل الألم، لكن احرم نفسك من النوم وستكون قد فعلت شيئاً لن يغفره لك مخك ولا جسدك، شيء يضرك على المدى القصير والطويل، فإياكم والاستهانة بأهمية النوم السليم.