منذ سنوات أصبح اليوم الوطني أحد أيام السنة التي تتوقف فيها الحركة اليومية من أجل ذكرى توحيد البلاد، والشاهد الزمني على أن الهوية الوطنية تعني الانتماء للوطن بغض النظر عن الطائفة أو القبيلة، وأن ذلك العمل العظيم الذي تأسس على يد الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه ورجاله- رحمهم الله- أصبح ملكاً لأبناء هذا الوطن وعليهم الحفاظ عليه مهما كلف الأمر، وأن الاختلاف مقبول ضمن الوحدة الوطنية، لكن الخلاف حول استقرارها غير مقبول، ويتطلب وضع خطوط حمراء ضد من يحاول كسر طوق هذه الوحدة المباركة.
جميل أن نحتفل بذكرى الوحدة، لكن لا يجب أن يعني الاحتفال التوقف عند ترديد الأناشيد الوطنية، فالوطن تاريخ ومعنى، والطريق نحو دولة المؤسسات لا يزال تواجهه صعوبات ومحطات، قد نتوقف عندها لوقت قصير، لكن علينا المضي رغماً عنها نحو المجد والاستقرار وإلى ترسيخ معنى الهوية الوطنية، وإلى أن الوطن مكان يوفر لأبنائه الحرية والاستقرار والعمل، وزمان يفتخر به الأحفاد في مستقبل الأيام، وعندما يتحقق ذلك سنراها في عيون أبنائه، ومستقبلهم، وفي أحلامهم.
من أجل أن يبقى الوطن فوق الجميع عليه أن يتمتع برحابة الصدر مع أبنائه، وأن يفتح ذراعيه لنقدهم وتذمرهم ولمطالبهم التي قد تكون في غاية الألم والصعوبة في كثير الأحيان، وأن الرأي المناسب في الوقت غير المناسب يحتاج إلى تأن في الحكم عليه، وقد مر الوطن في محطات مقاومة للإعلام الجديد والرأي والرأي الآخر وتجاوزها بسلام، كما استأنس مفاهيم عديدة مثل حقوق الإنسان، ومع مرور الزمن أصبح لها منابر رسمية، وصار المواطن يتحدث من خلال ثقافة حقوق الإنسان، وذلك إنجاز تم تحقيقه في وقت قصير، كذلك ما يحدث في السنوات الأخيرة من مشاريع لتطوير القضاء وثقافة العدالة يعد انتصاراً لمبدأ التطوير الحضاري وطريق ممهد لاستقلاله التام عن المصالح والتأثيرات الخاصة والمحسوبية.
علينا أن نتذكر جيداً المعادلة التاريخية التي تجعل من الوطن حقوقا وواجبات، وأن العلاقات بين المواطنين تجمعهم المصالح العامة والتي يأتي في مقدمتها الأمن الوطني بكل ما تعنيها الكلمة، يؤدي غياب ثقافة الحقوق والقانون إلى حدوث الفوضى وظهور مرجعية الشعارات القومية والدينية، ويكمن السبب لأن بعض الأطروحات الثقافية لازالت تقدم الوطنية على أنها تاريخ ومذهب، وهو ما يخالف أبسط أبجديات المفاهيم الحديثة، وقد كان الصراع الأيديولوجي والقبلي أحد أهم أعداء الوحدة الوطنية، ولو استعرضنا الأجواء الثقافية خلال العقود الماضية لأدركنا كم أضعنا وقتاً في الإشادة بالصراعات الأيدولوجية.
كم أضعنا من ثروات بشرية ومادية في تأجيج تلك النار الموقدة منذ الزمن الغابر في صحاري الظمأ والجوع، كانت أموالنا تغذي تلك الرغبة الجاهلية في القتل، والتي تم إلباسها بثوب الدين من أجل تفجير المجمعات البشرية بدون تأنيب الضمير أو الإحساس بالذنب، وقد كانت ولا زالت بمثابة الخنجر في مستقبل الوطن، ولا زال الخروج من تلك الأفكار يستنزف الجهد والمال، وإذا تداخلت أحكام التكفير والتبديع مع المواطنة يصبح التسلط والخوف طرفي حبل العلاقة بين السلطة والمجتمع، ومثل هذه الأحكام ليس لها علاقة بحقوق المواطنة العصرية، ولا يمكن أن تكون الفتاوي وأحكام التكفير أساساً قانونياً لعلاقة المواطن بالمواطن حسب مفهوم الدولة العصرية..، وعلاقات الإنسان بربه أسمى بكثير من أن تكون مسرحاً للصراعات السياسية والإقصاء.
رحم الله الملك المؤسس وطيب ثراه ورحم رجاله الشجعان، فقد أسسوا وطناً أقرب لمساحة أوروبا الغربية، وتركوا لنا حملاً ثقيلاً، يحتاج إلى جهد مضاعف من أجل أن يكون وطناً عصرياً نضاهي به الأمم والأوطان الأخرى، ولن نصل إلى تلك المرحلة إلا بالحكمة والعمل الدؤوب، وقبل ذلك نحتاج إلى قدر عال من التسامح والعفو، وأن نطوي صفحات الماضي ونفتح صفحات جديدة عنوانها المستقبل والاستقرار والحفاظ على المكتسبات.