أسلفتُ أن المقطع الأول من قصيدة الرحيل جمالٌ فكري بحت، ولكنَّ المقطع الثاني أقربُ إلى الجمال الوجداني.. وأنتم تعلمون أن البثَّ الوجداني يكون عن معاناة الشاعر نفسه كالغزل، ويكون عن إثارة وجدان المُتَلقِّي في التغزُّل،
ومعروفٌ الفرقُ بين الغزل والتغزُّل، وموجز هذا الوجدان أن عذاب الحبِّ تحوَّل إلى نعيم؛ فذكراها في الأعماق، وهي صوت الذاكرة، وهي آفاق الشاعر في إدراكه واسترجاع ذاكرته.. وأما الشأن الموسيقي الخارجي فقد ذكرتُ كثيراً أنه ليس من الشرط موافقة الأعاريض الخليلية؛ لأن أعاريض الخليل عن ألحان عربية تاريخية مأثورة، وليست حصراً للألحان في الوجود، وآفاق الألحان أوسع من المأثور التاريخي لكل أمة؛ وإنما الشرط تحقُّق اللحن بوقفات ثابتة - سواء أطال السياق التي هي فيه أم قصر -، وأن يكون الثبات باستقرار اللحن في مقطع ترتاح الأذن إلى استقراره في زمن وإن قصر، وهذا يسميه المَغْنَواتية (كوبليه)، ثم لا بأس من الانتقال إلى لحن آخر مثله، وهكذا فعل الدكتور؛ فقد استعمل بحر الهزج خماسياً، وكان الشطر الثاني ثُلاثياً على سُنَّة العرب بأن جعله ثلاثياً والأول ثُنائياً.. وجاء ثبات اللحن باتحاد نظام الشطرين والوقفتين؛ فالمقطع الأول على وزن
مفاعيلن - مفاعيلن
مفاعيلن - مفاعيلن - فعولن
والمقطع الثاني مثله إلا أن الضرب على وزن (مفاعيلن).
وهذا البحر جاء في مأثور العرب الأكثر على وزن (مفاعيلن) مرتين لكل شطر، وتأتي تفعيلته ثنائية مكفوفة العروض؛ فتكون على وزن (مفاعيلُ) ويسمون هذا التصرف كَفّاً بحذف سابع التفعيلة الساكن، وهو يُحقِّق اللحن إذا ثبت عروضاً أو ضرباً، أو ثبت في الحشو.. وأمَّا ورود الحشو مرة (مفاعيلن)، ومرة (مفاعيل) فلا يحقق اللحن إلا بضرورة غنائية تهدم البنية اللغوية كأن يشبع الحرف السابع من الكلمة، فيكون (مفاعيلو)، وهذا هو نفسه مفاعيلن.. وجاء ثنائياً ضربه على وزن (فعولانْ) بسكون النون، ولا خلل في ذلك؛ لأن الضرب وقفة ثابتة.. وجاء ثنائياً ضربه على وزن (فعولن)، وجاء عروضه وضربه على هذه التفعيلة أيضاً.. وأما ورود التفعيلة في الحشو على وزن (مفاعلن) فحكمُه حكم ما أسلفته عن حشو (مفاعيلُ).. وجاء العروض على وزن (فعولن)، والضرب على وزن (فعولانْ) بسكون النون، وورد الضرب والعروض على التفعيلة الثانية (فعولانْ).. وجاء في الثنائي الذي ضربه وعروضه على وزن (مفاعيلن) بِزِنة مفعولن، ومفعولُ، وهاتان التفعيلتان لا تُقبلان موسيقياً إلا بثبوتهما في الكوبليه، وإذا لم يثبتا فهما ضرورة غنائية إن استطاع المنشد التصرف في الكلمة؛ لتكون على وزن التفعيلة الثابتة، وهكذا كلُّ تغيُّر في الحشو فلا بد فيه من الثبات أو أن يكون قابلاً الضرورةَ الغنائيةَ التي تردُّه إلى الوزن الثابت.. وجاء على عروض (مفاعل)، وجاء على عروض (مفاعِلن).
قال أبو عبدالرحمن: كل هذه التفعيلات كَمِّية لا قيمة لها، وإنما القيمة للمتحرك والساكن، والقيمة للحن الذي يُظْهر الوزن، ويُظهر وقفات المغنِّي على الساكن في كمية ثابتة ليس من الشرط أن تكون في كمية تفعيلة الوزن الذي سموه بحراً، وهكذا العبرة بوقفات اللحن الخفيفة الثابتة على المتحرِّك.. وجاء ثلاثياً في كل شطر، وجاء خُماسياً في الشطرين إلا أن الأول ثلاثي، وورد ثلاثياً في الشطر الثاني.. ويأتي في الموشحات من شطر ثنائي، وشطرٍ واحد ليس هو سوى الوقفة كمجيئها على فعولن مثل:
ألا يا قوم خلُّوا الكؤوسا
وسمى الشيخ جلال الحنفي ما كان على وزن:
مفاعيل - مفاعيلن
مفاعيلن - مفاعيلن
هزجاً مُختّلاً؛ وذلك لغلبة الصنعة العروضية، وعدَّه جمعاً بين الهزج والوافر، ويأتي البيان إن شاء الله أن المُعْتَدَّ به ثباتُ بِنْية اللحن باستقرارٍ مكاني لكمية الساكن والمتحرِّك، واستقرار زماني حسب أنفاس الأنغام، وأورد لعبدالغفار الأخرس شعراً هزجياً من البند الذي لا يتقيد بالإعراب وهو قوله:
لقد طاب لنا الوقت
[تُشْبَعُ الباء هكذا (طابا) والتاء هكذا (الوقتو)]
وقد أسعدنا البخت
[وقد أَسْعَدنا البختو]
وغاب العاذل اللَّاحي
فأتْحفني بأقداحي
وقل لي هُوَّ من ثغري أفاويقُ
أفاويقُ من الخمر [بإشباع القاف]
حكتْ ذوباً من التِّبْرِ
وسالتْ من لُـجَينِ الكأسِ إذ ذاكَ نُضاراً (م م) [بإشباع كاف (ذاك)]
بنت كَرْمٍ لُبِّسَتْ من حَبَبِ المزج سوارا (م م) حابَبِ المزجي]
وتحلت بِحُليِّ من سناها لن يُعارا (م م) [واتحلَّتْ بي حُلِيٍّ]
وأذبناها عقيقاً (م م) [وا أذبْناها]
واتخذناها خلوقاً (م م)
أَشْبَهَتْ مِن وَضَحِ الصبح ضياءً وبهاءً (م م) [واضَح.. الصبحي وابهاءاً (م م)
وصَفَتْ حتى حكَتْ وُدِّي لسلمان صفاءً (م م) [واصَفَتْ.. لسلمانا].
قال أبو عبدالرحمن:وبغير علامات التدوير، وبغير التعديلات بين الأشطر يكون البند مزجاً بين الهزج والرمل، ولا قيمة له غنائياً على الحالتين.. والعروض للوزن التاريخي لألحان العرب قديماً صنعةٌ مُـحترِقة، غير معقولة المعنى إلا بتحليل غنائي.. والوزن يُظهره اللحن، وهو لا يُظهر لحناً؛ لأن الوزن يقبل ألحاناً كثيرة، والعبرة بأمرين: أولهما كَمِيَّة الساكن والمتحرِّك الذي يُحدِّدُ رتابة الاستقرار المكاني لهيئة الجزئية من اللحن، وثانيهما وقفات اللحن على الساكن، أو الوقفة الخفيفة على المتحرك سواء أتمَّتْ التفعيلة في الصنعة العروضية أو لم تَتِمّ، وبهذا يحصل الفرق بين (مستفعلن) و مستفعِ لن) التي لا تعليل لها في صنعة العروض إلا بما لا يتحقَّق به أي معنى؛ وإنما يُبيِّن الفرق اللحن الغنائي الذي يقف وقفة خفيفة ثابتة المكان تحت حرف العين المتحرك من (مستفعِ).. وأما التَّحْليات النغمية التي تُطوِّح بالصوت رأسيّاً وأفقيّاً، وتكرره زيادة على اللحن فذلك من نِعَمِ الجمال الفني إذا ثبت في كل بيت أو بعض الأبيات، ولا بأس أن تتغيَّر تموُّجاتُ الحُلَى النغمية في كوبليه آخر، وهذا لا يُضبط إلا بالنوتة، أو سماع اللحن مباشرة ومحاكاته، وتوارُثِه مشافهة.. وللموسيقى الداخلية (موسيقى المفردة اللغوية) الأثر الخلابُ في ذلك.. وما أكثر النثر في الشعر العربي والمنظومات التعليمية، لأنه تقطيع بصري صناعي لتفاعيل سَمَّوها ذات زحافات غير ثابتة ولا يُلاحظ فيها الضرورات الغنائية التي تهدم اللغة من أجل لحن الغناء، وإنما تُضبط بنيةُ الكلمة لغة في الوزن الذي أظهره اللحن ممارسةُ بالتغنِّي بالشعر؛ ولهذا كانت (مستعلن /5///5) خللاً قبيحاً في بحر البسيط إن عجز المغني عن تحويل البنية اللغوية إلى البنية اللحنية الغنائية؛ ولهذا أيضاً كانت أشعار مثل أمير الشعراء المتنبي، وقبله أبو تمام، وبعدهما أبو العلاء كثيرة النثرية غير قابلةٍ الغناءَ، وكان جمهور شعر البحتري والشريف الرضي ومهيار الديلمي شعراً غنائياً.. وجاء الهزج رُباعياً في الشطر الواحد مع تغيُّر تفعيلة العروض والضرب حسب الوقفة الغنائية.. وذلك في شعر شعراء العامية بلحنين عُرِفَا باللحن الشيباني وَرِثَاهُمَا من بادية الحجاز.. الأول مثل:
[يقولون العرب: مَن وَسَّع المقطع يجيه العودْ]
والثاني مثل: [ألا يارجل رُوجي وارْوجي عن مقعد الحقرانْ ].
وسموهما لويحانيين تجوُّزاً؛ لأن عبدالله اللويحان أَكثَرَ من الغناء عليهما.. وخلاصة القول: (أن قصيدة الرحيل مع جمالها وجلالها الفكري وسلامة وزنها): عسيرة على الغناء إلا بمعاناة موسيقار قدير يُغيِّر وَيُذَلِّل الناشز كالسنباطي وعبدالوهاب، ووجود مثليهما عزيز؛ وإلى لقاء إن شاء الله مع عَرْكِ الأُذن بعد مُدَيْدة، والله المستعان وعليه الاتكال.