لم يكن العام 1351هـ - 1932م في وجدان هذه البلاد وذاكرة أبنائها مجرد تاريخ نشأة دولة جديدة، بل بداية حقبة جديدة ومرحلة مختلفة، غيَّرت ملامح بقعة كبيرة من هذا العالم إلى الأبد، وشمل التغيير جميع الأصعدة الحضارية والثقافية والاجتماعية. فمن التفرق والشتات إلى أكمل مشروع وحدة عربية في العصر الحديث، ومن الجدب وقلة الموارد إلى أحدى أغنى البلاد بمواردها الطبيعية، ومن التخلف إلى نهضة تنموية شاملة.. لذا، كان ذلك التاريخ جديراً بأن نقف عنده نتعلم الدروس ونتأمل الإنجازات، ونحمد الله على ما منّ به على بلادنا. في مثل هذا اليوم قبل أكثر من ثمانين سنة سجل التاريخ مولد المملكة العربية السعودية بعد ملحمة بطولات قادها المؤسس الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود -رحمه الله- على مدى 32 عاماً، استطاع خلالها توحيد معظم أرجاء الجزيرة العربية تحت راية التوحيد، فاعتبر ذلك أحد أعظم إنجازات العصر الحديث لمدى صعوبة تحقيقه بسبب الفقر وندرة الموارد وانتشار الفرقة والتناحر والتخلف. ولم يكتف الملك المؤسس - طيب الله ثراه - بإنجازه العظيم، فبعد التوحيد رفع راية جهاد جديدة لم تكن أسهل من سابقتها، وأسس لنهضة تنموية في مختلف المجالات في إحدى أفقر مناطق العالم وأقلها موارد في ذلك الوقت. وبدأ مرحلة بناء دولة عصرية، ورسم الخطوط العريضة لتوجهاتها وسياساتها المستمدة من الشريعة الإسلامية الغراء، وليؤسس نموذجاً عصرياً لدولة حديثة في جميع المجالات متمسكة بتعاليم دينها وقيمها الإسلامية والعربية. واهتم الملك المؤسس بالدعوة إلى الدين الصحيح ومحاربة البدع، وركز على تطوير الإنسان وتعليمه؛ ففتح المدارس والمعاهد، كما اهتم بتحسين الوضع الاقتصادي واستغلال موارد البلاد، وبدأ التنقيب عن النفط واستغلال الموارد الطبيعية. وعلى الصعيد الاجتماعي اهتم بتعزيز الوحدة بين المواطنين، وتنمية روح المواطنة، وشجع المواطنين على الاستقرار وبناء مجتمعات مدنية حديثة، وفي المجال الإداري أنشأ الوزارات والمؤسسات والإدارات، وأقام القضاء على أساس تحكيم شرع الله، واهتم بتحقيق الأمن والمحافظة على النظام في الدولة لتوفير الراحة والاطمئنان للمواطنين. إن الحديث عن النهضة التي حققتها بلادنا يقودنا إلى عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبد العزيز - يحفظه الله -؛ إذ تتجلى المنجزات في أوضح صورها، وتتسارع النهضة التنموية في أسرع وتيرة؛ حيث تم فيعهده الإعلان عن أكبر ميزانيات في تاريخ المملكة، وتم إقرار أضخم مشاريع تنموية، وعم الرخاء أرجاء الوطن، وحرص -حفظه الله- على أن يحظى كل مواطن بجميع سبل الرخاء والعيش الكريم، وتم كل ذلك في إطار علاقة حب فريدة بين القائد وشعبه؛ لتصبح هذه العلاقة إحدى أهم ركائز استقرار هذه البلاد ونمائها.
ويتميز عهد خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز - يحفظه الله - بحرصه على خدمة الحرمين وراحة ضيوف الرحمن ومتابعة شؤونهم، والبحث عن كل ما يسهل عليهم أداء شعائرهم. وقد أمر - حفظه الله - ببناء مرافق عملاقة في المشاعر المقدسة، تسهل على الحجاج والزوار أداء مناسكهم، وأمر بأكبر توسعة للحرم المكي، واستكمال الأعمال المتبقية من المسجد النبوي. وأرسى - حفظه الله - الأمن والاستقرار، وتحققت في عهده خطوات واسعة ومتسارعة في مجال الإصلاح الاقتصادي، أدخلت المملكة ضمن دول العشرين، وساهمت رؤيته السديدة في تثبيت دعائم اقتصاد شامخ من خلال تنويع القاعدة الاقتصادية، وبناء المدن الاقتصادية، وواكب ذلك تعزيز التنمية البشرية وتحسين المستوى المعيشي للمواطنين وزيادة الرواتب وتوفير فرص العمل لهم والاستثمار في رأس المال البشري. وعزز -حفظه الله- مكانة المملكة كبلد داعم للحق، ينطلق من تعاليم الدين الحنيف لمناصرة الخير ونبذ العنف ومساعدة المحتاجين، كما كان لها دور بارز في إرساء دعائم العمل السياسي الخليجي والعربي والإسلامي والعالمي المعاصر والتخطيط لمستقبل الأمة. ولأن الاهتمام بالتعليم أحد مرتكزات التنمية اقتناعاً بدوره في إعداد الكوادر البشرية المواكبة لأحدث مستجدات العصر والمتصلة بالتدفق المعرفي، والواعية لدورها في نهضة الوطن، والمشاركة في مسيرة التنمية الشاملة، فقد حظي قطاعا التعليم العام والتعليم العالي في عهد خادم الحرمين الشريفين بدعم غير مسبوق، تمثل في نسب إنفاق تُعد من أعلى نسب الإنفاق على التعليم من الناتج المحلي على المستوى العالمي، وظهر أثر ذلك جلياً في مشاريع التوسع والتطوير الكبيرة كمشروع تطوير التعليم العام والخطة الاستراتيجية للتعليم العالي، وتضاعفت أعداد الجامعات والكليات وانتشرت في جميع مناطق المملكة، وأُنشئت المدن الجامعية الحديثة، وتنفيذ برنامج طموح للابتعاث، وإقامة مراكز متقدمة للبحوث والدراسات، وبرامج التعاون الدولي مع الجامعات والمراكز العالمية المرموقة، وإطلاق عدد كبير من المشروعات والمبادرات الأخرى التي تعزز الجودة والكفاءة.
ولقد حظيت جامعة الملك فهد للبترول والمعادن بدعم لا محدود من حكومتنا الرشيدة، مكنها من تحقيق ما نصبو إليه من الإنجاز والتميز؛ لتصبح بفضل الله هذه الجامعة سعودية الهوية بمواصفات عالمية، تَتّقِدُ جوانبها بالحركة الدؤوبة؛ فاستكملت الجامعة بنيتها الأساسية في مدينة جامعية متكاملة، وأنشأت أحدث المعامل والمختبرات، واستقطبت أفضل الطلاب والأساتذة، وأسست مجلساً استشارياً من قيادات علمية وصناعية دولية، ووادي الظهران للتقنية، ووقف الجامعة، وعقدت شراكات استراتيجية مع جامعات ومؤسسات مرموقة، وهيأت بيئة تعليمة وبحثية محفزة على العطاء والإبداع، جعلت خريجيها يحققون مواقع قيادية وإنجازات مؤثرة في مسيرة التنمية، ويحقق أساتذتها وطلابها إنجازات عالمية؛ حيث امتلكت الجامعة أكثر من 100 براءة اختراع، ونفذت بحوثاً ومشاريع تطبيقية تسهم في نماء الوطن.
وستستمر الجامعة - بإذن الله - في هذا التطور إيماناً منها، طلاباً وأساتذة وموظفين، بأن لهذا الوطن دَيْناً واجب الوفاء له؛ لذا فهم تواقون دائماً لخدمته، وكلهم أمل أن يرفعوا اسمه عالياً في كل المحافل، ويحققوا الرؤية الحكيمة لقيادتنا الرشيدة. إن هذه المناسبة ليست لحصر منجزات يصعب حصرها، لكن لنتذكر مسيرة نماء لم تكن سهلة، قادتها قيادات مخلصة، ودفع مسيرتها شعب اشتغل بالبناء، وتجاوز بالجد والتعب عقبات كبيرة، وشيَّد ملحمة تنموية سابقت الزمن، ورسمت معالم حضارية جمعت بين أصالة الماضي وحيوية الحاضر، وتهيأت للمستقبل بتطلعات واعدة واثقة.
في هذه المناسبة يجدر بنا أن نقف ونتأمل مسيرة عقود طويلة من العطاء، نشحذ بها الهمم، ونكون امتداداً لأجيال مهدت الطريق للوصول لهذه القمم. نسأل الله أن يحفظ لنا قائدنا وربان نهضتنا خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز، وأن يحفظ ولي عهده الأمين الأمير سلمان بن عبد العزيز، وأن يديم على بلادنا عزها وأمنها ورخاءها واستقرارها، إنه وكيل ذلك والقادر عليه.
- مدير جامعة الملك فهد للبترول والمعادن