تساؤلات طرحت حول طارق بن زياد الليثي التلمساني، وهذه التساؤلات حامت حول أصله، وخطبته، وحرق السفن، وعلاقته مع موسى بن نصير، ولعل من المناسب ذكر ما قيل عن أصله: فقد قال ابن خلدون أنه عربي الأصل من قبيلة صنف الحضرمية التي قطنت على ضفات أحد الوديان في تلمسان وكان أميراً على برقه أثناء ولاية زهير على إفريقيا، وهناك من يقول إنه دخل الإسلام على يد موسى بن نصير، وقال آخرون إنه فارسي من همذان، أما الحميدي، صاحب كتاب جذوة الملتمس، وهو أندلسي الأصل والمنشأ، فقد ذكر أن طارقاً مولى بربرياً من قبيلة نغزة، إلا أن هناك من يقول إنه ليس مولى، وأياً كان أصله فقد كان فعله فاق من نقائه أصله وأثره تجاوز النظر في جذوره، فهو ذلك البطل الذي دخل الأندلس مع نحو من عشرة آلاف نفر استطاعوا بعون من الله فتح الأندلس، ومكوث الإسلام فيها نحو ثمانية قرون.
أما خطبته المشهورة في جنده عند عبوره البحر، فقد كانت بليغة جزلة، تناقلها الرواة، وقبل أن نورد نص الخطبة، يجدر بنا أن نشير إلى أن أول من أوردها هو المقري التلمساني المتوفى 1440هـ في كتابه الشهير “نفح الطيب” وقد أسندها إلى مؤرخ لم يذكر اسمه، ومن الغريب أن المؤرخين الأندلسيين الذين سبقوا المقري وهو الذي عاش في مصر والشام، ومات بها لم يذكروها، فلم يذكرها ابن القوطيه، أو ابن عبدربه في العقد الفريد، أو شيخ المؤرخين ابن حيات في المقتبس، أو ابن بسام في الذخيرة، أو ابن سعيد في المغرب، أو ابن بشكوان في الجذوة، أو ابن صاحب الصلاة، أو ابن الخطيب، أو ابن خلدون، كما لم يذكرها ابن عبدالحكيم، أو البلاذري. كما أن صياغها العربية الأدبية الفائقة السبك لا يمكنها أن تناسب لسانا بربريا حديث عهد بلغة العرب. ولذا فربما أنها قد صيغت من قبل من حوله على لسانه، كما هو شأن وزراء السلاطين في ذلك الزمان، وقد يكون من إبداعات المقري، الذي يمتلئ كتابه “نفح الطيب” بالصيغ الأدبية الرائعة. ونصها كما يلي:
“أيها الناس: أين المفر؟ البحر من ورائكم والعدو أمامكم. وليس لكم والله إلا الصدق والصبر، واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أضيع من الأيتام في مأدبة اللئام، وقد استقبلكم عدوكم بجيوشه وأسلحته، وأقواته موفورة، وأنتم لا وزر لكم إلا سيوفكم، ولا أقوات لكم إلا ما تستخلصونه من أيدي عدوكم وإن امتدت بكم الأيام على افتقاركم ولم تنجزوا لكم أمراً، ذهبت ريحكم وتعوضت القلوب عن رعبها منكم الجرأة عليكم، فادفعوا عن أنفسكم خذلان هذه العاقبة من أمركم، بمناجزة هذه الطاغية، فقد ألقت به إليكم مدينته الحصينة، وإن انتهاز الفرصة فيه لممكن إن سمحتم لأنفسكم بالموت. وإني لم أحذركم أمراً أنا عنه بنجوة، ولا حملتكم على خطة أرخص متاعاً فيها النفوس، أبداً بنفسي، واعلموا أنكم إن صبرتم على الأشق قليلا استمتعتم بالأرفه الألذ طويلا، فلا ترغبوا بأنفسكم عن نفسي، فما حظكم فيه بأوفى من حظي. وقد بلغكم ما أنشأت هذه الجزيرة في الحور الحسان من بنات اليونان، الرافلات في الدر والمرجان. والحلل المنسوجة بالعقيان، المقصورات في قصور الملوك ذوي التيجان، وقد انتخبكم الوليد بن عبدالملك أمير المؤمنين من الأبطال عرباناً، ورضيكم لملوك هذه الجزيرة أصهاراً وأختاناً، ثقة منه بارتياحكم للطعان، واستماحكم بمجالدة الأبطال والفرسان، ليكون حظه منكم ثواب الله على إعلاء كلمته، وإظهار دينه بهذه الجزيرة، وليكون مغنمها خالصة لكم من دونه، ومن دون المؤمنين سواكم. والله تعالى ولي إنجادكم على ما يكون ذكراً في الدراين.
أيها الناس: ما فعلت من شيء فافعلوا مثله، إن حملت فاحملوا، وإن وقفت فقفوا، ثم كونوا كهيئة رجل واحد في القتال، وإني عامد إلى طاغيتهم بحيث لا أنهيه حتى أخالطه وأمثله دونه، فإن قتلت فلا تهنوا ولا تحزنوا ولا تنازعوا، فتفشلوا وتذهب ريحكم، وتولوا الدبر لعدوكم فتبدوا بين قتيل وأسير. وإياكم إياكم أن ترضوا بالدنية، ولا تعطوا بأيديكم، وارغبوا فيما عجل لكم من الكرامة، والراحة من المهنة والذلة، وما قد أحل لكم من ثواب الشهادة، فإنكم إن تفعلوا، والله معكم ومفيدكم، وتبوؤوا بالخسران المبين، وسوء الحديث غدا بين من عرفكم من المسلمين، وهأنذا حامل حتى أغشاه فاحملوا بحملتي”.
أما حرق السفن، فهناك من يراها حقيقة، وهناك من يراها أسطورة، لأن أحداً لم يذكرها في المراجع الإسلامية سوى الإدريسي في معجمه الجغرافي “نزهة المشتاق” ثم تلاقفها من بعده عدد من الرواة الإسلاميين، ولعلنا نشير إلى أن هرناندو كورتيث فاتح المكسيك قد تأثر بقصة طارق فيما حرق السفن ففعل فعلته في عام 1519هـ. أما قصة طارق مع موسى بن نصير وما حدث بينهما من تنافس وتحاسد، فهي طويلة، ويمكن إيرادها في مقالات لاحقة.