كانا يسيران في الشارع الكبير بعد أن ركنا سيارتهما المتهالكة في مكان ظليل.. حتى لا تزعج سكونه، سرحت بعينيها بعيداً.
استرعى انتباهها تلك الرافعة فوق البناء الشاهق وهي تنقل أحمالاً ثقيلة على بعد عشرات الأمتار من الأرض، كانت لعبتها المسلية كلما مرت صباحاً من شارع النخيل، مرة تتخيلها راقصة بالي تثني إحدى رجليها وتدور برشاقة على رجل واحدة، فيما رأسها الذي لم يكن إلا أحمال الرافعة يميل بفرح على كتفها، ومرة تراها وردة تدور في الهواء.
صارت رفيقة صباحاتها منذ مدة تتأملها إلى أن تغادر مجالها البصري بعد أن تنعطف سيارة الأجرة في اتجاه المستشفى العسكري..
تذكرت رفيقتها الغريبة بعد أن وقع بصرها عليها وهي لا تزال منشغلة بإتمام تلك العمارة الشاهقة التي كانت تعجز عد طوابقها وتذكر الرقم في كل مرة.
انتبهت لوجوده إلى جانبها وأرادت أن تخرجه من صمته وتجعله ينخرط في لعبتها، أشارت بأصبعها إلى اتجاه الرافعة وقالت له بزهو: انظر هناك.. التفت بسرعة، وأعاد نظرته المتسائلة إلى وجهها، لم تدم حيرته طويلاً، أجابته بسرعة: انظر لتلك الرافعة وهي تدور في ذلك العلو الشاهق، إنها تشبه شيئاً ما..وأضافت وهي تضحك: انس أنها رافعة، وحاول أن ترى فيها شيئاً آخر، إنها تجعلني أتخيلها كل صباح على أنها كائن حي، لكن لن أقول لك بماذا توحي لي حتى لا أؤثر على خيالك..
توقف للحظات، يبدو أن اللعبة أغرته، نظر إلى السماء، تأمل المشهد، تغيّرت ملامحه، عبس قليلاً والتفت إليها وقال بحسرة: إنه رجل على حبل المشنقة.. وتابع: انظري إلى رأسه مربوط بالحبل، وتلك السلسلة الطويلة التي تترنح في السماء إنها رجله.. حشرجة الموت...
ماتت الابتسامة على شفتيها ولاذت بالصمت وهي تردد في قرارة نفسها: الآن فقط عرفت سر خلافاتنا الدائمة...