ظروف منطقتنا هذه الأيام استثنائية بكل المقاييس، والمحيط الذي من حولنا يتغير بطرق قد تكون خارج حساباتنا. وقد لا يعيد التاريخ نفسه بالطريقة التي خبرناها ونتصرف عادة على ضوئها ولذلك فقد لا تأتي ردود أفعالنا بالنتائج ذاتها التي توخيناها منها.
نعم لدينا أزمة مع إيران التي ترى أنها ملكت من القوة ما يخولها التدخل في شئون جيرانها، بل وترسل قوات عسكرية إليها كما حدث في سوريا. الحس القومي العربي الذي كان يردع إيران تم تحجيمه بمد إسلامي قوي خلط قضايا منطقة شاسعة متباعدة من عالمنا الإسلامي ببعضها، وأعاد ترتيب أولوياتها. فلم تكن تعترف الغالبية إلا برابطة الدين فقط، وهي مهمة جدا، وقضية متفهمة لو لم تتم من خلالها إذابة البعد العربي الذي يعتمد اللغة والتاريخ المشترك إضافة لرابطة الدين فيما بيننا نحن العرب. وما لبث البعد الديني الذي تطور وتجدر إلا وتحول لمد لطائفي منح إيران ما تحتاجه من حجة للتدخل في عمقنا العربي، وهذه حقيقة لا بد من التسليم بها، فإيران استطاعت مزج هويتها القومية بمذهب ديني معين مستغلة الفجوة التي خلقناها بين قوميتنا ومعتقدنا.
وواقعنا اليوم يذكر بقضية التحكيم في صفين عندما أُوهِمَ أبو موسى الأشعري بخلع صاحبه كخلعة لخاتمة، بينما تبعه عمر العاص وثبت صاحبه مثبتاً معه خاتمه الذي سبق وخلعة لأمور تفاوضية تكتيكية، فانقسم فريق الأول إلى قسمين تحاربا، ودانت الخلافة لصاحب الثاني. فالغرب ضغط علينا بكل ما أوتي من قوة لنخلع مذهبنا من خاتمنا في حربه ضد ما يسمى بالإرهاب، ونظر للمذهب الأخر على أنه المسلم المسالم الحقيقي فثبته في خاتمه وسلمه بلادا عربية يحكمها من خلال نظم انتهازية. وعموما للمسلمين تاريخ طويل من الشعوبية التي تبرز أحيانا فيتقاتل المسلمون بسببها وتخبو عندما ترهقهم الحروب أو يسيطر عليهم أجنبي كالمغول والترك. ودائما ما يترك التاريخ آثار لخطواته يضيع في تقاطعاتها من لا يعي دروسه.
وما انفردت أمريكا بالعالم حتى تحولت قوانينها وتشريعات الكونجرس الداخلية لما يشبه الاتفاقيات الدولية، فهي قررت وحدها أن لها الحق في منع أي دولة تصنفها كمارقة من امتلاك أي سلاح دمار شامل، أي بلغة عملية أي سلاح رادع، بينما هي تحتفظ لنفسها بحق امتلاك مئات الآلاف من الصورايخ الذرية القادرة على تدمير العالم بأسره مئات المرات. وحجتها في ذلك أنها متحضرة وغيرها متخلف. وبما أنها عرفّت إسرائيل على أنها امتداد سيادي حضاري فعلي لها، فقد أرادت أمريكا فعليا حصر أسلحة الدمار الشامل فيها، وبكل صراحة من يأمن إسرائيل من جيرانها مثل من يأمن الدب في بياته الشتوي. فما دامت دول الجوار تتحارب مع بعضها وتدمر نفسها بنفسها فإسرائيل تمارس بياتا شتوي تستمع فيها بفرائسها التي سبق وضحت بها، لكنها ما تهدأ الأوضاع حتى تنقض من جديد لإشباع نهمها والاستعداد لشتاء آخر.
إيران تريد امتلاك سلاح نووي، والحقيقة أن كثير من الدول والشركات الغربية تشجعها على ذلك سرا وعلنا لأنها تنظر لمستقبل قد تكون فيه إيران قوية بشكل يكفل لها مصالح كبيرة في هذه المنطقة الحيوية. وللسبب ذاته فأمريكا تتبع في المنطقة ما يمكن تسميته “بالغموض الاستراتيجي” قياسا على “الغموض البناء” المصطلح السياسي المعروف. فهي لم تتوان عن سحق العراق وتجريده من كل قوته وقتل جميع علمائه وباحثيه في جميع المجالات الحيوية عبر المخابرات الإسرائيلية ويقدر علماء الذرة العراقيون الذين قتلتهم إسرائيل خلال احتلال العراق بثلاثمائة عالم. واليوم لا تبدو أمريكا في عجلة من أمرها في اتخاذ أي إجراء ضد إيران، فأمور المنطقة لم تتضح بعد، والربيع العربي زاد الأمر غموضا. فأمريكا تعي التاريخ جديدا وتعرف أن حبل المذهبية نسبياً قصير ولكن حبل الروابط القومية واللغوية يصمد أمام عوامل التعرية التاريخية. فقد يثبت مستقبلا أن مصلحتها معها أهم من مصلحتها مع العرب الضعفاء.
وليعذرني القوميون العرب فأنا لا أتكلم عن القومية السياسية المشوهة التي مارستها ولازالت تمارسها أنظمة مستبدة في دول عربية في حق شعوبها، مثلما ما مارست المتاجرة بقضاياها، بل أتكلم عن رابطة اللغة والتاريخ والنسب. الرابطة التي تجعل السعودي والمصري والمغربي يفهم ويحس بعمق بلغة الأنين السوري وبحرقة ألمه، الحس الذي جعل القضية الفلسطينية تتجدر في عقول المتعلمين والبسطاء من العرب. فنحن عرب نتكلم العربية، ونتنفس الهواء العربي ونأكل الطعام العربي بل ونهضمه بطريقة عربية. ولكننا وللأسف لم نتعلم الدرس بعد من الأكراد، والأمازيغ بل من اليهود والإيرانيين في الحفاظ على هويتنا القومية.
أما إيران فهي تحاول أن تتغذى على الروح الطائفية لإحياء مجد فارسي قديم، وللمعلومية فقط فالفرس يعتبرون أنفسهم من العرق الآري الذي يحتقر الأعراق الأخرى، ولغتهم لغة هندواوربية في أصلها حتى ولو شابهتها بعض المفردات العربية، وهذا ما يدركه الأوربيون فيها أيضا. وهذا ما نادى به الشاه بشكل سياسي من خلال الاحتفالات الضخمة بقوروش، والخميني من منطلق ولاية الفقيه. وهذا بالطبع، على عكس ما قد يعتقده البعض، لا يجعلنا ننظر لإيران كعدو دائم كإسرائيل مثلاً، فنحن نشترك مع إيران في جغرافية التاريخ وفي تاريخ الجغرافيا، أما إسرائيل فهي غريبة على المنطقة برمتها. فقد يعود الوئام يوما مع الشعب الإيراني الصديق لو توقفت أسباب الاستعداء الحالية.
بصراحة وشفافية نحن ولو جزئياً مسئولون عما يحصل في منطقتنا، فسوء التخطيط والنزاعات القطرية أهلكت قوانا، وحروب مثل حروب العراق أنهكت المنطقة ليس اقتصاديا وعسكريا بل وإيديولوجيًا، وهي التي أطغت المذهبية على بعدنا السياسي. نحن لم نعرف كيف نتفق فيما بيننا، ولم نعرف كيفية تحديد المصالح المشتركة لنا ناهيك عن تحقيقها ولذلك فنحن نجد أنفسنا في نوع من التوهان السياسي الدائم.
إيران ستملك سلاحا نوويا، نعم، ولديها آلاف الصواريخ التي تهددنا بها نحن العرب وليس إسرائيل، وهنا نقصد النظام الإيراني وليس الشعب الإيراني. فبصراحة وشفافية، من الذي منع العرب من امتلاك أسلحة مماثلة؟ كانت هذه رؤية الملك فيصل رحمه الله، وعندما أنشئت شركة لتصنيع السلاح العربي في مصر برؤوس أموال خليجية بعد هزيمة 67 واتهام الغرب ببيعنا سلاحا فاسدا، أو عاجزا، تمت سرقة أمول المشروع من قبل عميل عربي لإسرائيلي تزوج ابنة مسئول كبير عربي ووصل من خلاله لإدارة المشروع. ومع فشل مشروع تسليحنا الذاتي، نهض مشروعنا الدولي في استجداء المنظمات الدولية لحمايتنا. والبعض منا طلب حماية دول صديقة بضمان مصالح لها لدينا. كنا ضعفاء ولذلك سلكنا سلوك الضعفاء.
أمريكا وإسرائيل تمارسان الصراخ ضد إيران بينما يطلقان يدها في سوريا، فهل تجرؤ إيران على إرسال جندي واحد لسوريا لو كانت الأخيرة في حالة عداء حقيقي مع إسرائيل؟ لا أظن ذلك. وهل كانت أمريكا تسمح لروسيا بالعربدة التي تمارسها لولا أن ذلك يخدم مصالح بعيدة لها. وحقيقة، وبكل شفافية مرة أخرى، فلا أحد يلوم أي دولة في السعي وراء مصالحها في عالم رأسمالي يقدم الفرد على المجتمع. نحن فقط من بقي متعلقا بعبارات لا معنى لها مثل “الأسرة الدولية” و”المجتمع الدولي” ومتمسكين بعدالة متخيلة لمنظمة مهترئة مثل هيئة الأمم. والواقع أنه لم يبق لنا إلا شعبنا وعمقنا الحضاري والتاريخي. والتاريخ يعلمنا ألا نركن لأي دولة أخرى لمساعدتنا ولو كانت أمريكا، فلو رأت صديقتنا لعقود طويلة أن من مصلحتها تغيير تحالفاته في منطقتنا فلن تتوانى عن ذلك، إذا كانت إسرائيل ذات النفوذ في أمريكا لا تثق فيها 100% فكيف بنا نحن؟ فلا ضامن لنا إلا قوتنا الذاتية.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif