وشهوة الخصام تذكي نار العداوة كلّما خبت، وتزيدها سعيراً.
وذات مرَّة أثار البعْض من المتحذلقين مثل هذه التساؤلات، متصورًا أنّ الأسباب ستتقطّع بي.
فقلت له: أليس الزمان والمكان من خلق الله.
قال: بلى.
قلت: هل تتصوّر لأحدهما بداية أو نهاية؟
قال: لا.
قلت: لو فَرَضَ عليك لجوج مثلك، أن تتصوّر البداية والنهاية، فكيف يكون تصوُّرك؟
قال: لا يمكن، ومن المستحيل أن تتصوّر البداية أو النهاية للزمان أو المكان.
قلت: إذا كنت عاجزًا أمام تصوُّر مخلوق، فكيف تبيح لنفسك تصوُّر الخالق، فبُهت، ولم يحر جواباً.
إنه العبث والتفكير المهدور بدون عائد، ولو طويت هذه الصفحة، وانشغل العلماء بالمحكم، وآمنوا بالمتشابه، لكنَّا أُمّة واحدة.
لقد عن لِمُفَكِّرٍ جَبَّار مثل [عباس محمود العقاد] أن يكتب عن {الله} كتابًا يلخِّص فيه آراء المفكرين الغربيين حول [العلة العلية]، فكان أن عثرت عليه، وأنا بَعْد غضّ الإهاب، ضعيف الجناب، فتصوّرت أنه قد أحاط بما لم يحط به مَنْ سلف، وأنه قادر على أن يضع يدي على القول الفصل، الذي لا معقّب له، بحيث لا أحتاج معه إلى مزيد من الكتب، فما زادني إلاّ إيغالاً في الجهل، واستشرافاً لمزيد من المعرفة، مع أنه من أسلم المفكرين المعاصرين، وأحكمهم. ولقد قرأت لعشرات العلماء كتباً في الإلهيات، واستهواني من بينهم [المعتزلة] و[الفلاسفة] كـ[الفارابي] و[ الرازي] و[ابن سيناء] وطائفة من فلاسفة [وحدة الوجود]، وكلّما فرغت من كتاب، تناولت آخر، ولمَّا أزل في لهاث، أشرب من محيطات المعرفة شرب الهيم، وأيقنت فيما بعد أنّ الجميع يدورون في حلقة مفرغة، وأنّ ما كتبوه رياضة فكرية، لا تبلغ بالمتابع غاية.
ومع يقيني بأنّ الإيمان وحده المنقذ، وأنه إذا ضاع، فلا أمان، فإنّ العلماء كافة، لم يبلغوا بأتباعهم شاطئ السلامة، إذ كل عالم رَادٌّ ومردود عليه، والجدل في النهاية تحصيل حاصل، وملء فراغ، وإزجاء وقت، وإيغال في الوحل المعرفي. وفي النهاية لابد من الأمن النفسي، وما أخطر فَقْد هذا الأمن على الإنسان. وكم من مفكر اجتالته الهواجس، وأرهقه البحث عن الحقيقة، فصاح في آخر النفق المظلم: [اللهم إيماناً كإيمان العجائز].
وبعد ذلك التطواف الممل، والمضني، والمخيف، بحثت عمّن كَتَبَ عن [الإيمان] من علماء السلف، كـ[ابن تيمية]، ومن علماء الحديث كـ[ابن منده]، ومن علماء الفلسفة كـ[نديم الجسر]، وعندها أحسست بشيء من الهدوء، ولكنه هدوء قلق، تعقبه عاصفة التساؤل الملح عن الكون، ما حقيقته، والمصير ما مراحله، والحساب ما تفاصيله، والجزاء ما درجاته، وما دركاته. فالعقل في صراع مع النص، وكلاهما يتبادلان المواقع. فالمعتزلة ينصرون العقل على النص، والسلفيون يقيّدون العقل بالنّص. ومن الخطأ الكبير أن نقول: إنّ المعتزلة عقلانيون، إذ لا تكليف بدون عقل، كما أنه ليس من العدل أن نسمّي السلفي بالنصوصي المعطّل للعقل، حتى [الظاهري]، يوائم بين النص والعقل، فالعقل مطلق الحرية عند المعتزلي، ومقيّدها عند السلفي. صحيح أنّ هناك مستويات في التفكير، ولو تصوّرنا الدرجات أو الدركات، لقلنا: إنّ السلفي وسط بين المعتزلي والظاهري، وهي وسطية تقسم السلطة بين النص والعقل، بحيث يُحْترم النص، بوصفه رسالة، ويحترم العقل، بوصفه متلقياً للرسالة، ومنظماً لامتثالها، فلا عدل مع النص بدون العقل، ولا مع العقل بدون النص. ويبقى الإنسان مخلوقاً عجيباً، يصنع من عصي المسائل مشكلة، ثم يشقى في تصوُّرها، والتماس الحلول لها، ولو أنه تركها في مستقرها لاستراح وأراح. وطوبى لذلك الأعرابي الذي نظر إلى قافلة من الجِمال مشيُها وئيْد، فلما سأل عما تحمله قيل له: إنها تحمل كتباً، تثبت وجود الخالق، فصاح بهم:
[إنّ البعرة تدل على البعير، وإنّ الأثر يدل على المسير، فسماء ذات أبراج وأرض ذات نجاج ألا تدل على العليم الخبير].
فذلك صوت الفطرة، فطرة الله التي فطر الناس عليها:-
[ وفي كل شيء له آية: تدل على أنه واحد]
وفي الأثر:- [فكروا في خلق الله، ولا تفكروا في ذات الله].
ومع كل التحفظات، يظل الإنسان مغرماً بالتفكير خارج الجاذبية، مع أنّ الله لم يتعبدنا بما أستأثر به من علم الغيب، ولم يطلب منا إلاّ الإيمان، ولو أنّ مثل هذا التفكير لم يفرق الأُمّة، ولم يحملها على التكفير للمخالف، لكان في الأمر متسعٌ. فهل نطوي تلك الصفحات الملتهبة، ونتجه إلى ما الأمة بأمس الحاجة إليه، ونقول في حق المخالف ما قاله [على بن أبي طالب] - رضي الله عنه - في حق الخوارج: [إخوان لنا بغوا علينا]؟
لقد نُهي الصحابة عن رَفْع أصواتهم الحسية فوق صوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - وكل من فكر خارج المعقول، فقد رفع صوته فوق صوت الرسول - صلى الله عليه وسلم - معنوياً أو حكمياً، فلنتأدب مع إرث النُّبوّة، ولنخفض أصواتنا بين يديْ هذا الإرث. وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ [الأنفال:33] بإرثك المطاع وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُون [الأنفال:33] عن التقصير بحق هذا الإرث، أو التجاوز لمقتضياته الدلالية، ولقد يتساءل بعض الورعين عن هذا التوجيه لتلك الآيات، ولمَّا كان القرآن حمَّال أوجه، والرسول صلى الله عليه وسلم يقول:- [بلِّغوا عني ولو آية فربّ مُبلَّغ أوعى من سامع] فقد تبلغنا، ووجدنا الآيات تحمل مثل هذا التوجيه وذلك التخريج.
اللهم إنا نسألك الثبات على أمرك، حتى نلقاك، وأنت راض عنا، ونسألك ألا تجعل في قلوبنا غلاً للباحثين عن طريق النجاة، وإن ضلوا السبيل، فهم من النار هربوا.