نزل الإمام الفقيه الشَّعْبيّ - رحمه الله - ضيفاً على أحد معارفه، فقال الرجل للشعبي: ما تشتهي؟ قال الشعبي: أهْوَن موجود وأعزّ مفقود. ففكر الرجل برهة ثم قال لغلامه: اسقه ماءً!
ما أحسن تلك الكلمات الأربع؛ فقد أوجز فيها الشعبي وأبلغ، ولخَّص نظرة الناس للماء: إذا كان عندهم زهدوا فيه وشربوا غيره، وإذا اختفى ولو قليلاً جزعوا واضطربوا ولاحقوه!
ويبدو أن إهمال شرب الماء قديم وليس أمراً جديداً، فالشعبي وُلِد في خلافة عمر الفاروق رضي الله عنه وأرضاه، وتوفي في القرن الأول الهجري نفسه، وهذه الآن أكثر من 1300 سنة انقضت منذ تلك المقولة، وما زلنا مفرِّطين في الماء! ماذا حصل للماء اليوم؟ تركه الناس واتجهوا لكل نوع من السوائل عداه، والذين يشربون الشاي والقهوة والغازيات قد يظنون أنهم يروون أجسادهم؛ لأن هذه المشروبات تحوي الماء، لكن لا نصيب لهذا من الصحة؛ فهذه المشروبات تحوي مواد مجففة ومدرة للبول مثل الكافيين ومادة أخرى اسمها ثيوفيلين، وهي تطرد الماء الموجود في تلك المشروبات، وليس هذا فقط بل هي تطرد الماء الموجود في الجسم أصلاً، ولهذا يجب تعويد الأطفال على شرب الماء، وإذا تعوّد الأطفال على شرب أي شيء غير الماء - حتى المشروبات النافعة مثل العصيرات الطبيعية - فهذا لا يكفي؛ لأنه لا يوجد أي شيء يمكن أن يعوض عن الماء، والسبب قد يبدو بديهياً لكن الكل تقريباً يجهله، فهل تعلم أن الجفاف هو عامل الضغط الأول للبشر وجميع الكائنات الحية؟ كل كائن يمر بضغوط جسدية ونفسية، أشياء تقصد المناعة وأشياء تضر العضلات وأشياء تهاجم النفسية.. إلخ، لكن مِن كل هذه الضغوط فلا أشد وطأة على الكائن الحي من الجفاف، فهو أضرُّ الضغوط كلها حسب كلام الطبيب الأمريكي فريدون باتمنغليج في كتابه «جسمك يصرخ طالباً الماء»، ويفيدنا بأن الطب اليوم يجهل الفوائد الحقيقية للماء، ويجهل كون نقصه يسبب الأمراض. الأدوية لا تعالج أسباب الأمراض دائماً، وإنما في الكثير من الأحيان ليست إلا لإزالة الأعراض.
مما يخطئ فيه الناس هو ظنهم أن الفم الجاف علامة الجفاف الأساسية، لكن الحقيقة أن هذه آخر علامة من علاماته، وتعني وصول الجسم إلى مرحلة سيئة من الجفاف. إن الأمر أكبر مما تظن؛ فالجفاف ليس مجرد حالة مؤقتة تضايقك وتنتهي بكأس ماء؛ فالجفاف يسبب أمراضاً وآلاماً، ويقول فريدون إن الحالات المزمنة التي لا يسببها الالتهاب يُستحسن النظر لها على أنها من علامات الجفاف، فمن الأمراض التي يسببها الجفاف ويزيدها سوءاً: القرحة، تصلب المفاصل، ألم القلب عند الحركة أو حتى عند الراحة، ألم الظهر السفلي، ألم الساقين عند المشي، الصداع النصفي، ألم القولون، عسر الهضم، وغيرها، ويخبرنا بشيء عجيب: عالج هذا الطبيب 3 آلاف حالة قرحة مَعدية فقط بزيادة شرب الماء للمريض، وبلا أي أدوية؛ لهذا ينصح الطبيب بشرب الماء إذا كان الشخص يعاني هذه الأشياء، وذلك بما لا يقل عن لترَيْن ونصف اللتر موزَّعة على 24 ساعة لأيام عدة طالما كانت الكلِية قادرة على التصفية والإخراج.
هذا كلام الطبيب فريدون، وقد فصّلَ في كتابه الكثير من الطوام التي يسببها نقص الماء، وكلنا نعرف أن الماء أصل الحياة، لكن رغم هذا أهملناه تماماً، وأوافقه في هذا، وقد رأيت أثراً إيجابياً لما اتبعت نصائحه، فاحرصوا على شرب كمية كافية من الماء خلال اليوم، واشربوا بعدها ما شئتم!