نقلت إليكم في الحلقة السابقة، بعض الأحاديث التي بقيت في الذاكرة من علاقة صداقة مع زميل ألماني أيام دراسة الطب هناك قبل حوالي نصف قرن. وصلنا إلى ما قاله الصديق الألماني عن الاتفاق الضمني بين المتحاربين المنتمين حضاريا ً للأصول المسيحية، أن لا يمارسوا التدمير المتبادل لأُسسهم الدينية والحضارية القديمة.
بعدما استمعت لما ذكره صديقي الألماني عن اتفاقهم الضمني ذاك، اعترضت منزعجا ً على أنهم كانوا إذا ً يقتلون الجديد بكلِّ وحشية ويتعفّفون عن تدمير القديم. قال نعم معك حق، وهذه هي الخسّة والدناءة في الحروب الحديثة، ولكنها تبقى أفضل من حروب الإمبراطوريات القديمة التي كانت تدمِّر وتنهب وتحرق كل شيء في طريقها، وضرب لي كمثال كيف أنّ الجيش الألماني أفرغ كلّ متاحف باريس عند دخول فرنسا، ونقل اللوحات والتحف والجواهر مغلّفة ومرقّمة ومؤرشفة إلى برلين، حيث بقيت هناك محفوظة في الصناديق حتى انتهت الحرب واستعادتها فرنسا مرة أخرى.
الآن وبعد قرابة نصف قرن على أيامي تلك في جامعة ماينتز، بدأت أتذكّر بعض تلك الأحاديث مع زميلي الألماني، يصاحبها إلحاح شخصي قوي على مقارنتها بما حدث ويحدث عندنا في العالم العربي منذ غزو العراق للكويت، وما تسلسل بعد ذلك من أحداث تدمير ونهب حتى اليوم.
في الكويت نهب الجيش العراقي ما وقع تحت يده من أشياء ثمينة، ولكن ليس بطريقة التغليف والترقيم والأرشفة، وإنما بطريقة الخطف واقتسام الغنائم. نفس الشيء فعلته بعض الأقليات العربية المقيمة في الكويت والمتسللون إليها عبر الحدود من الدول المجاورة أثناء الحرب.
عندما سقط حاجز الخـوف مؤقتا ً عن العراقيين في بدايات الغـزو الغربي لبلادهم، انطلقوا كالضواري الجائعة ينهبون متاحفهم ووزاراتهم وجامعاتهم ويبيعون آثارهم التاريخية بتراب الفلوس للأجانب ويدمّرون مبانيهم التاريخية. كانت جيوش الاحتلال تتفرّج باندهاش وفرح غامرين على ما يفعله أولئك الأوباش ببلدهم.
تحدث الآن في ليبيا وسوريا، وبدرجة أقل في مصر وتونس نفس الهمجية تجاه الأوطان. المواقف المخزية لأهل البلاد تجاه واجهاتهم الحضارية والوطنية، أثبتت ضعف وهشاشة الانتساب والانتماء الوطني والديني والحضاري عند الشعوب العربية. لو كانت الممارسات التدميرية والسلب والنهب وانتهاك الأعراض تأتي من قِبل جنود السلطات التي تقوم ضدها الثورات لهان الأمر، لكنها على ما يبدو ممارسات يتساوى فيها الطرفان في الهمجية.
يحسب للحضارة الغربية أنّ المتشاركين في الانتماء إليها يحسون بالعمق الحضاري لنفس الأصول. حين يتقاتلون على المصالح المستقبلية بضراوة، يحافظون على روابط وأُسس حضارتهم المشتركة، وخصوصا ً العقائدية والتاريخية والثقافية والفنية. لن نستطيع المجازفة بمطالبة الغزاة بنفس التصرفات تجاه روابطنا المشتركة ومقدّساتنا حين يغزوننا، لأننا بكل بساطة لا نبدي الاحترام اللازم لهذه الروابط بين بعضنا البعض، لا في السِّلم ولا في الحرب.
هناك فارق نوعي كبير في العقليات بيننا وبينهم وفي مدى الالتزام الحضاري بما يجوز ولا يجوز.