مَنْ منا لم تقترن كلمة السوق في ذاكرته ومخيلته بصور عديدة وذكريات فريدة؟ كلٌ حسب مجال اهتمامه ودائرة اختصاصاته، وعمره الذي عاشه وسيعيشه - بإذن الله -، وما سطّرته الأيام في كتاب حياته أينما كانت نشأته وكيفما كانت تنشئته، ربما تفتح هذه الكلمات أبواباً كثيرة جداً على أمور وقضايا، أحوال وآمال، إنسان ومكان وزمان، مفاهيم وحسابات كمفاهيم العمل والبطالة، وحسابات المكسب والخسارة، النمو والتنمية، ونشاطات الزراعة والصناعة والتجارة، ولم يكن ذلك فقط على مستوى الأفراد أو الشركات أو حتى الأوطان، بل يتجاوز ذلك في عصرنا الراهن أياً كانت الأوصاف التي يُوصف بها هذا العصر، وأياً كانت التحديات التي تتبدّى في الأفق القريب أو البعيد، وأياً كانت تحليلات الخبراء، واستقصاءات الدراسات الاقتصادية والسياسية والاجتماعية التي تسعى لتحديد ملامحه والكشف عن بعض السيناريوهات التنبؤية لمستقبل العالم اقتصادياً والتشابكات الأخرى.
ففي الوقت الذي تتفتح آفاقٌ جديدة لتطوير مفهوم العمل وتنمية الموارد البشرية ثمة طروحات تؤكد أن العولمة ستزيد من كثافة البطالة وحدتها، كما تؤكد تغيُّر موازين ونسب معدلات النمو العالمية وحسب هذه الدراسات فإن الدول النامية ستُمثِّل في عام 2020 م أكثر من 60% من الإنتاج العالمي، في حين تُمثِّل الدول الصناعية الغنية أقل من 40% ولا ينفصل ذلك عن قضايا الهجرة والتثاقف أحياناً والصراع أحياناً أخرى ومعدلات الإنجاب في الدول التي تُعاني من الشيخوخة السكانية مما حدا ببعض المؤلفين إلى صك مصطلح “موت الغرب” حيث تُنبئ التوقعات السكانية في هذه الدول بمؤشراتها ومعدلاتها الحالية بأن يصبح البيض في كل من أوربا وأمريكا الشمالية أقل من 50% من عدد السكان، وتصبح الثقافات الأخرى غير الأوربية كالثقافة الإسلامية تقترب من الثقافة الغربية القائمة على التقاليد المسيحية ثم اليهودية فيختلط الأنا بالآخر عندما يصبح الآخر جزءاً من المسرح الغربي.
ومن ضمن مكونات صورة السوق العالمي أيضاً تغيُّر واضح في إستراتيجيات العمالة فبعد أن كانت الصناعات تعتمد على كثافة الأفراد أصبحت تعتمد على كثافة المعرفة والمهارات مما يزيد من حدة البطالة ما لم يبحث كل من يريد المنافسة في سوق العمل عن تطوير ذاتي ومؤهلات وخبرات تنقله إلى صفوف الندرة التي تسعى إلى استقطابها الشركات العالمية أو متعددة الجنسيات أو العابرة للقارات.
ومن أبرز ملامح صورة الأسواق العالمية أيضاً أن الشركات والمؤسسات الصناعية الكبرى التي تحتاج إلى جهود علمية وبحثية ضخمة تحتفظ بها الدول المتقدمة في حين تصدر الشركات العالمية العاملة في مجال الصناعات الأخرى إلى أي مكان في العالم بحثاً عن العمالة الرخيصة أو غير المكلفة مما يدعم مكاسبها ويقلل من كلفة مدخلات الإنتاج، ومعنى ذلك أنها متى وجدت مكاناً تتوافر فيه عمالة أرخص لن تتردد في فتح أو نقل خطوط الإنتاج إلى هذه الأماكن، وهناك الكثير والكثير من ملامح السوق العالمي التي تُمثِّل تحديات لا يستطيع مجتمعٌ ما على وجه الأرض أن ينفصل عن تداعياتها، فهل لذلك علاقة بمفهومنا عن العمل؟ وهل تكفي الرغبة في العمل في ظل سوق عمل بهذا الشكل؟ وما مكانة التدريب والتأهيل في عقول شبابنا، وهل يظل الملاذ الآمن البحث عن العمل الحكومي الذي يتجنب العامل فيه بشكل كبير مخاطر الفصل أو الاستبعاد وقياس الإنتاجية وغيرها من تطبيقات مبادئ الحوسبة أو الحوكمة مما أدى إلى التصاق مصطلح البطالة المقنَّعة بالعمل الحكومي في كثير من بلدان العالم.
ودمت عزيزاً يا وطني، وإلى لقاء والسلام.