سجل لنا التاريخ وسيسجل وقائع كثيرة من نكران الجميل، وانقلاب التلميذ على الأستاذ، واستقصاء المرفوع للرافع، وعند الله تجتمع الخلائق.
هناك نماذج كثيرة لبعض من الناس الذين دبروا ومكروا، وحاكوا وما رحموا، لمن مد لهم العون، ورفع من قدرهم، وأعلى من شأنهم، لكنها بعض النفوس البشرية تأبى إلا أن تسلك ما جبلت عليه مع ما قد تتلقاه من تعاليم دينية وأخلاق إنسانية لتهذيب النفوس، وتخليصها من الأحقاد والأضغان، وتدعو إلى الفضيلة، والمحبة، ونبذ الانتقام وتجاوز الزلات، وهناك من الناس من هذبته، وأخرجته من أن يكون أسير نفسه، إلى أسير عقله، والسير في طريق الحق، لكن هناك من اتبع هواه وضعف أمام مكنون نفسه وغلبت عليه، فمال عن الحق.
وفي تاريخ لسنان الدين بن الخطيب مع تلامذته ابن زمرك، والنباهي، وغيره شواهد على ذلك وسأترك القارئ الكريم. ما قاله الشيخ أحمد المقري التلمساني على تنكر ابن زمرك للسان الدين ابن الخطيب، فقال: (هو من تلامذة لسان الدين، ومن عداد خدامه، فحين نبا به الزمان، وتعوض الخوف بعد الأمان، كان أحد الساعين في قتله، وصرح بذمه وهجوه، بعد أن كان ممن يشكره، وهكذا عادة بني الدنيا يدورون معها حيث دارت، ويسيرون حيث سارت، ويشربون من الكأس التي أدارت، وقد تولى المذكور الوزارة عوضاً عن ابن الخطيب، وصدح طير عزه بعده على فنن من الإقبال رطيب، ثم آل الأمر به إلى القتل كما سعى في قتل لسان الدين وكان الجزاء له من جنس عمله، والمرء يدان بما كان به يدين، وعفو الله سبحانه مرجو للجميع في الآخرة، وهو سبحانه وتعالى المسؤول أن ينيلنا وإياهم المراتب الفاخرة، فإنه لا يتعاظمه ذنب وليس للكل غيره من رب).
وبعد أن أتينا على قول المقرئ في ابن زمرك، نأتي على ثاني التلاميذ ممن نكر فضل لسان الدين ومكر، وأساء وما شكر، وما أوفى وغدر، أبو الحسن النباهي البني، وهو علي بن عبدالله الحسن أو جعسوس كما يصفه لسان الدين (جعسوس تعني القصير الذميم)، ومهما كان اسمه الصحيح، ففعله القبيح صريح، وعند الله تجتمع الخصوم.
ترجم له لسان الدين ابن الخطيب في الإحاطة، فأثنى عليه عندما كان الود بينهما قائماً، وكل بصاحبه معجب وهائم، فقال: “ثم قدم للقضاء الفقيه الحسيب أبا الحسن وهو عين الأعيان بمالقة الخصوص برسم التجلة والقيام بالعقد والحل، فسدد وقارب وحمل الكل وأحسن مصاحبة الخطبة والخطة، وأكرم المشيخة مع النزاهة ولم يقف في التأتي على غاية، فاتفق على رجاحته ولم يقف في النصح عد غاية”.
ولسان الدين ابن الخطيب هو الذي أنشأ الظهير السلطاني بتوليه أبي الحسن النباهي القضاء وهو صاحب الاختيار له، والنصح بتعيينه، كما أصدر ظهيرا ثانيا بإضافة الخطابة إلى القضاء، فأظهر معاني كرامته، واصطفاه انتقاء وإيثاراً، ورقى درجته تقديرا واعتبارا، وجعل له فيما دوَّن آثاراً، فأهداه السعد إظهاراً وإضماراً.
وكان أبو الحسن النباهي يسعى في مرضاته سعي العبيد، ويبدأ في الثناء عليه ويعيد، فكم قبّل يده، ثم جاهر بعدائه بعد انتقال الحال، فسبحان مغير الأحوال!
وبعد أن بعدت النفوس، قال لسان الدين في حق القاضي أبي الحسن النباهي الذي لقبه بجُعسوس، قولاً ما عليه مزيد في كتابه “الكتيبة الكامنة”، الذي ألفه بعد أن ترك الأندلس منصرفاً عن خدمة السلطان، لما لقيه من مكر وبهتان. فقطن المغرب في ظل دولة بني مرين. وألف فيه رسالة سماها “خلع الرَّسَن في وصف القاضي أبي الحسن”.
ولمزيد من الفائدة قد يحسن إيراد تعليق يوسف بن إسماعيل بن الأحمر سليل الملوك على هجاء ابن الخطيب للمتنكرين له الغادرين به، فقال مادحاً ابن الخطيب ومضمناً رأيه فيه، قال: “هو شاعر الدنيا وعلم المفرد والثنيا,كتاب الأرض إلى يوم العرض، لا يدافع مدحه في الكتاب ولا يجنح فيه إلى العتاب آخر من تقدم في الماضي، وسيف مقولة ليس بالكهام، إذ هو الماضي، وإلا فانظر كلام الكتاب الأول من العصبة كيف كان فيهم بالإفادة. صاحب القصبة للبراعة باليراعة، وبه أسكت صائلهم وما حمدت بكرهم، وأصائلهم، المشوبة بالحلاوة الممكنة من مفاصل الطلاوة. وهو نفس العدوتين ورئيس الدولتين بالاطلاع على العلوم العقلية، والإمتاع بالفهوم النقلية، لكن صل لسانه في الهجاء لسع، ونجاد نطاقه، في ذلك اتسع، حتى صدمني، وعلى القول فيه أقدمني، بسبب هجوه في ابن عمي ملك الصعق الأندلسي سلطان ذلك الوطن في النفر الجنسي، المعظم في الملوك بالقول الجني والإنسي، ثم صفحت عنه صفحة القادر، الوارد من مياه الظفر غير الصادر، لأن مثلي لا يليق به إظهار العورات، ولا يجمل به تتبع العثرات، اتباعاً للشرع في تحريم الغيبة. وضرباً على الكريهة، وإثباتاً لحظوظ النقيبة الرغيبة. فما ضره لو اشتغل بذنوبه، وتأسف على ما شرب من ماء الهجو بذنوبه، وقد قال بعض الناس: من تعرض للأعراض، أرسى عرضه هدفاً لسهام الأعراض. انتهى كلام ابن الأحمر.
هذا نموذج ولم يكن الأوحد ولن يكون، فكفانا الله شر من أحسنا إليه.
