كيف انطفأت الأنوار عن شرفتها..؟ وكيف غص الظلام منصتها ومقاعدها وطاولاتها..؟ وكيف ساد السكون أرجاءها، فلم يعد يُسمع فيها صوت سارد أو شاعر أو سائل ومحاور..؟ وكيف خلا الشارع الذي يحمل اسم صاحبها (عبدالمقصود خوجة)
من صخب الازدحام الذي كان يشهده في ليل الاثنين من كل أسبوع..؟ بامتداد شهور الخريف.. وحتى ثاني شهور الربيع (إبريل/ نيسان) من كل عام.
لقد توقف كل ذلك.. مع توقف لياليها، الذي بدأ (حداداً) على فقده لثالث أبنائه (إباء)، وهو في ميعة الصبا والشباب والآمال فيه والرجاء منه.. دون أن يتم عقد عشرينياته!! فقدر الجميع من أصدقائه وأحبائه، ومن رواد ليالي (الإثنينية).. على كثرتهم، حرقته ولوعته.. وظنوا جميعاً أن الأيام والنسيان ستطفئان تلك الحرقة، وأن الزمن سيطوي لوعته.. ويستبدلها (أملاً) وهو يرى (حفيديه) من أكبر أبنائه وكبرى بناته، وكل منهما يحمل اسمه (عبدالمقصود).. وهما يلهوان ويلعبان أمامه ويتأتئان اسمه (يا جدي)..!! خاصة وأن (الشيخ) بدا متماسكاً.. مستسلماً لقضاء الله وقدره.. خلال الأيام والأسابيع الأولى من صاعقة الوفاة التي لم تسبقها مقدمات أو نذر.. بل كانت كهبة إعصار مفاجئة، عبر نافذة مفتوحة، على شمعة متوهجة.. فأطفأتها بين غمضة عين وانتباهتها، لكن أردية التماسك التي كان يتلفع بها طوال تلك الأيام والأسابيع.. سرعان ما أخذت تنقشع عنه، لتغشاه موجات من الاكتئاب، أو الملل من كل شيء، والزهد في كل شيء.. حتى عن (إثنينيته).. أو درة إنجازه الثقافي، التي سقاها من روحه وجهده وماله وعلاقاته ووجاهته ورهافة استقباله لضيوفه.. الذين عادة ما يستقبلهم مؤهلاً ومسهلاً.. بسيل جارف من المدائح، بعضهم يستحقها دون شك، ولا يستحقها أكثرهم.. حملتني ذات يوم على مداعبته - وقد خلوت إليه -.. بـ”توصيف” حالة الإغداق هذه، التي يمارسها بتدفق وتفوق مع معظم رواد (الإثنينية) إن لم يكن جميعهم، لأقول له.. بأنه الوحيد فيمن عرفت ممن جمعوا بين حبين لا يجتمعان: التجارة والأدب - أو (حب المباني والمعاني) على طريقة الأستاذ الزيدان - الذي يملك (برطمانين) من “العسل”: أحدهما يقف على يمينه.. والآخر على شماله، فإذا أقبل عليه أحد الأدباء والكتّاب ومن أي قيمة وقامة.. انتصب (الشيخ) واقفاً بطوله الفاره: مرحباً محيياً بـ “الأستاذ” الأديب الأريب.. المبدع الفنان! فإذا أقبل عليه آخر أهَّل وسهَِّل بـ (العالم) الجهبز و(المفكر) الكبير.. أستاذ اللغة وآدابها! فإذا أقدم عليه ثالث.. حتى ولو كان صحفياً من الدرجة الثانية.. أهل بالصحافة ونجمها المتوثب الواعد إن كان من شبابها، أو شيخها وربانها الذي لا يبارى ولا يجارى.. إن كان من كهولها..! ومعذرة إن لم أستطع استحضار بقية قاموسه العسلي الفريد.. فلست أملك مثله تلك (البرطمانات) حتى أغرف منها كما كان يفعل.
توقفت (الإثنينية).. وتوقف معها عالم (الشيخ عبدالمقصود) الجميل، الذي كان يحيا به وفيه.. مع صفوة الناس وبينهم، واختفت معها.. كلمات افتتاحه لـ (لياليها) التي كان يصدح بها صوته في فضاء شرفتها المتلألئة.. وكأنها لحن افتتاح بديع، وهو يقول: (أحمدك اللهم.. كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، وأصلي وأسلم على خير خلقك: حبيبك وصفيك سيدنا محمد، وعلى آل بيته الكرام الطاهرين وصحابته أجمعين. الأستاذات الفضليات.. الأساتذة الكرام) ...إلخ.
***
لكن التوقف.. الذي بدأ حداداً.. فـ (اكتئاباً) أو مللاً وزهداً، تغيرت - أو.. أدت - نتائجه.. إلى توعكات صحية متتالية.. متباعدة حيناً، ومتقاربة حيناً آخر، أخذ يعاني منها الشيخ عبدالمقصود.. وسط تكتم سري محكم حولها كالتذبذبات التي أخذت تظهر على (ضغطه).. بين ارتفاع مفاجئ، يعقبه انخفاض مفاجئ.. مع آلام في عموده الفقري واضطرابات في الهضم.. مما اضطره للتردد على مستشفى الملك فيصل التخصصي في جدة، المرة.. تلو المرة، دون سماح الأطباء له باستقبال حتى خاصة أصدقائه، وهو ما أقلقهم جميعاً وأقلقني عليه أشد القلق.. إلى أن تحسنت صحته بعض الشيء - بالمعيار الطبي - وسُمح له باستقبال خاصة أصدقائه.. لساعة في اليوم، لأكون من بين أوائل من زاروه.. لما يربطني به من أوشج العلاقات وأعمقها منذ أن انتقل من الرياض - حيث كان يعمل ويقيم - إلى جدة في أوائل الثمانينات الميلادية.. وبدأت تراوده فكرة إقامة (الإثنينية) لتكون امتداداً لـ”ليالي منى”، التي رآها وعاشها وعشقها.. صبياً، والتي كان يقيمها والده الأستاذ محمد سعيد عبدالمقصود ثاني وأهم رؤساء تحرير جريدة (أم القرى) الرسمية، التي أنشأها الملك عبدالعزيز - طيب الله ثراه - لتتحدث باسمه بعد دخوله إلى مكة عام 1343هـ - 1923م.. أثناء الحج في مكة وأيام التشريق في منى، لتكون منتدى أدبياً لمثقفي الحجاج وأدبائهم ومفكريهم.. من العرب والمسلمين، لتبدأ (الإثنينية) ببرنامج شديد الجاذبية والتأثير على جمهرة المثقفين.. هو (تكريم) جيل الرواد من كبار المفكرين والأدباء والشعراء، الذين فاتهم التكريم في مؤتمر الأدباء الأول الذي عقد بين مكة وجدة في الأول من شهر ربيع الأول من عام 1394هـ - عام 1974م -، ورعته جامعة الملك عبدالعزيز.. أيام إدارة الصديق العزيز المرحوم الدكتور محمد عبده يماني لها، ولكن دون أن تقدم لهم - بطبيعة الحال - تلك (البراءات) الرسمية التي قدمها (المؤتمر).
***
ونجحت (الإثنينية).. بتواصلها وتكريمها لرواد الأدب والشعر والفكر ومن مختلف أنحاء المملكة ومدنها، وباستضافاتها لكثير من أدباء العرب وشعرائهم ومفكريهم.. عاماً بعد عام، حتى لأحسب أن لا أحد من الأدباء والشعراء والمفكرين.. إلا وحضر ليلة من لياليها، وفتن.. وهام بها، وكان الفضل في هذا النجاح.. لصاحبها أولاً، ولـ (السكرتارية) التي أقامها الشيخ عبدالمقصود.. خصيصاً لها ولأعمالها، وللصفحات الثقافية في صحف المملكة ومجلاتها.. التي كانت تتابع لياليها وما يدور فيها من سرد لتجربة صاحبها بكل ما تحمله من فكر وأدب وشعر، بل وجد وطرائف.. أسبوعاً بعد أسبوع، كطرفة معالي الشيخ عبدالله بلخير - رحمه الله - عندما عقب على أحد شباب الصحافة وقد دخل في مطبات السياسة.. قائلاً له: (حسِّن خطك)..!! ثم أضاف قائلاً: (لأن من يُحسِّن خطه.. يَحسُن حظه)!!
لتصبح (الإثنينية).. بعد سنوات قلائل.. أبرز صوالين المملكة الثقافية وأهمها وأمتعها، والتي تشد إليها الرحال سواء من الداخل أو الخارج، لتلحق بها مؤخراً (ثلوثية) الدكتور محمد المشوح في الرياض، والتي لم تكن تقل عن (إثنينية عبدالمقصود خوجة) رقياً في مكانها ومحتواها وروادها.. وقد اختارت لنفسها مساراً آخر لا يقل أهمية.. هو الاحتفاء بالمبدعين من أدباء وشعراء المملكة وأعمالهم.
***
على أن (الإثنينية) وبعد مضي ما يزيد عن عقدها الأول.. وبعد تكريمها لعشرات الأدباء والمفكرين والشعراء، انتقلت إلى مرحلة أخرى من حياتها.. بـ “استضافة” البارزين من الأدباء والشعراء والمفكرين.. بل ومن المهندسين والمحامين والأطباء ورجال أعمال.. من مختلف الأعمار والأجيال، ومن الجنسين كما فعلت عند استضافتها للدكتورة ثريا أحمد عبيد و(ماما أسما) والشاعرة (ثريا قابل).. ممن تحضرني أسماؤهن، مع تحديد لأعداد المتحدثين عن (ضيف الإثنينية).. حتى لا يضيع ليلها في مدائح وثناء عليه تستوجبها المجاملات ولا تفيد حضور الإثنينية بكثير أو قليل، وهو ما حمل شاعر المدينة الشيخ محمد الصابوني.. على أن يقدم سبباً جوهرياً لـ (مداخلته) في ليلة استضافة “شاهبندر” تُجار جدة أو رئيس غرفتها التجارية الصناعية الشيخ إسماعيل أبو داود - دون أن يكون مقرراً له ذلك من سكرتارية الإثنينية -، قائلاً بأن له (صلة نسب) تجمع بينه وبين الشيخ إسماعيل أبو داود.. فهو صاحب مصانع (التايد) وأنا (صابوني)، وليس هناك أقوى صلة.. من صلة (الصابون) بـ (التايد)؟! فصفق له الحاضرون.. وأعطيت له المداخلة والكلمة.
على أن (الإثنينية).. وعلى طول مسارها الطويل الذي امتد ثمانية وعشرين عاماً لم تقف عند فكرة (التكريم) أو (الاستضافة) وحدهما.. بل قدمت إلى جانب ذلك مجلداً سنوياً عن لياليها ليلة.. بليلة، وما طرح خلالها من تجارب وقصص ومداخلات.. في كل عام من أعوامها، إلى جانب (كتاب الإثنينية) الذي كانت تتولى إصداره، إلى جانب تقديم الأعمال الكاملة.. لعدد كبير من الأدباء والشعراء الذين لا يختلف حول قيمتهم وأثرهم وتأثيرهم.. فصنعت لنفسها طقساً ثقافياً فريداً.. لا مثيل له، لا يقوى على إقامته والسهر والحدب عليه إلا ذوي العزم من الرجال.. وقد كان الشيخ عبدالمقصود أحدهم.. بل أولهم دون شك!
***
في غياب ليالي (الإثنينية).. وبحكم صلتي الوثيقة والقريبة من (صاحبها).. كنت أتلقى الكثير من الاستفسارات عنها وعن الشيخ عبدالمقصود نفسه، بل وكان بعضهم يسألني عن ماذا يمكن فعله للشيخ عبدالمقصود من قِبل أصدقائه ومحبيه من رواد (الإثنينية)، وهم كثر.. بل وسألني الكاتب الصديق المهندس فرحة سعيد الغامدي عن كيف يمكن تكريم هذا الرجل الذي كرم عشرات العشرات من الأدباء والشعراء والكتّاب والمفكرين والمبدعين.. دون أن يُكرَّم، فلم يكن لدي ما أقوله لهم في ظل السرية التي ضربتها أسرته وأطباؤه على أخباره الصحية.. لأقول له بعد أن رأيته في صحة لا بأس بها.. مع قليل من البطء في الحركة وزيادة في الوزن بحكم الأدوية التي يستخدمها على يد أطبائه في (تخصصي جدة): إن محبيك يسألون عنك.. ويتمنون زيارتك.. وهم يسألون في البداية والنهاية عن موعد عودة (الإثنينية)..؟ وحتى أضحكه وأسلي عنه.. قلت له: إن حالتك يا عزيزي التي أراها تشبه حالة الزعيم السوفييتي (ليونيد بريجينيف).. الذي كان يقول المقربون منه دفاعاً عنه وحمية له (تسألون عن مرض بريجينيف.. صحته هي العجب)..!! فضحك من القلب وهو يقول لي: (أنا مالي.. ومال بريجين يف).. وغادر المستشفى لكنه لم يعد إلى حالته وتركيبته التي كان عليها، إلا أن الزيارة المفاجئة التي خصه بها سمو ولي العهد الأمير سلمان بن عبدالعزيز.. فعلت مفعول السحر.. حتى جاءتني الأخبار من سكرتارية (الإثنينية) أثناء كتابتي هذه السطور.. بأنها قد تستأنف نشاطها بعد إجازة عيد الأضحى المبارك، وهذا ما يتمناه عشاقها ومريدوها، وهم يتمنون بذات القدر.. الصحة والعافية والسلامة لصاحبها.
dar.almarsaa@hotmail.com