أكرر التحذير ومجرد التحذير لا يحل المشكلة؛ أن اعتيادنا الاستقدام في أي موقع جاء وبأي مبرر يحمل في مضاعفاته مشكلة تتفاقم احتمالاتها. ونحن الخاسر الأكبر من البدء إلى الانتهاء.
والمشكلة ليست فقط ما يصل إلى حقوق الإنسان ووزارة العمل واتهامات منظمات العمل والخلافات الأسرية وضياع هوية الأطفال. المشكلة متداخلة حد الجريمة من الاستغلال والإهانة والضرب لتقود إلى السواطير والمسامير والتسميم.. حتى النتيجة الحتمية في إقامة الحد.
مجتمعنا لم يفق بعد من ذهوله وصدمته بتفاصيل مقتل الصغيرة تالا التي ذبحتها الخادمة الأندونوسية بالساطور ثم حاولت الانتحار بشرب الكلوروكس.
وفي كل حالة جريمة دموية تثور التغطيات الإعلامية وتتحيز لهذا الطرف أو ذاك حسب الحالة ومن يسجل أو يخفي تفاصيلها البشعة: هل عذبت الخادمة المريضة نفسيا طفلا بريئا؟ أم عذبت ربة الأسرة المريضة نفسيًا خادمة غلبانة؟ وتضاف البهارات الإعلامية إلى التغطيات وتضيع الحقيقة ومسؤولية الجريمة ويختفي طعمها الحقيقي المر في استثارة مشاعر التعاطف الإنساني المستهدف.
وفي تواتر أخبار التأزمات التي نعاني منها في منطقة الخليج من حيث الشروط اللا منطقية المستجدة من قبل حكومات من نستقدمهم نقف لنساءل أنفسنا ماذا حدث؟ من الأحق بوضع الشروط للتأكد من سلامة النتائج؟ هل سيحولون النعمة -التي كنا نظن أننا نتبادل فوائد إيجابياتها معهم منذ بدأ الاستقدام في الثمانينات - إلى نقمة تحل علينا فقط لمجرد احتمالية غيابهم؟
بسبب انتشار وتوسع ظاهرة استقدام العمالة المنزلية في البيوت بشكل مضطرد، ولكون تجربتي الشخصية مع العاملات المنزليات المستقدمات من شتى دول آسيا خلال الثلاثين سنة الأخيرة في منزلي ومنازل الأقرباء - وكلهم وكلهن متعلمون مثقفون يخافون الله في ظلم عباده - تجربة مريرة ومليئة بتحدي حرمة البيت بالسرقات وإدخال غرباء في غيابنا وحتى أثناء نومنا، أجدني وصلت إلى الاستنتاج الواضح: أن الأمر لايتعلق بحسن معاملة المستخدم للعاملة المستقدمة أو السائق، بقدر ما يتعلق بمرئياتهما الذاتية حول سبب وجوده كبشر في غربة هذا البلد الذي جاء للعمل فيه.
السبب الأول والأخير لقبول المستقدم أو المستقدمة للوظيفة هو جمع المال لأنهما في وضع احتياج مادي وبالتأكيد عدم توفر فرص مجزية في وطنهما الأم لمن يحمل مؤهلات مثلهما ضعيفة أو متخصصة أوعالية. ولذلك يلجأن إلى التغرب لجمع المال والعودة مثل أي مغترب. وفي الغالب لن يتأخرا عن استخدام أي وسيلة أوطريقة للوصول إليه ما دامت لاتجد تعارضًا مع قيمهما -ليس الدينية- بل الشخصية. وبغض النظر عن تعليمات من استقدمهما للعمل وشروطه أو رغباته.
المستقدم والمستقدمة ليس آلة أو روبوت يمكن برمجته كما نريد بل بشر له مشاعره ورغباته وليست كلها إيجابية ومناسبة لنا.
وقد يسيء البعض معاملة العمالة المستقدمة حيث ليسوا كلهم أذكياء أوكلهم راضين عن وجودهم في هذه الوظيفة بالذات. ولكن يظل الرافد الأول لحدوث التجاوزات المستفزة عدم التوافق بين مرئيات الجانبين وقد تزيد الطين بلة طموحاتهم البشرية الطبيعية وشعورهم بالغبن, أو حتى الغضب حين يقارنون أوضاعهم كبشر بأوضاع من استقدموهم, وهم بشر مثلهم وقد يرونهم أشد غباء وأقل أحقية بالوصول إلى متع الترف والراحة. هذا إذا لم يروهم بعد العشرة أهدافا للغش والسرقة والضحك على الذقون.
هي مأساة حقيقية في الحالتين!
ويظل علينا أن نبحث عن حلول أخرى غير استرقاق الآخرين أو حتى استقدامهم ومعاملتهم كما يجب؛ حلول تنسجم مع معطيات العصر.