كان الاحتفال باليوم الوطني علامة من علامات بهجة المواطنين. وما زالت تلك العلامات متدفِّقة. وكاتب هذه السطور سعيد بأن الله قدَّر أن يكون تخصص دراسته في تاريخ الوطن. وهذا ما أوحى أن تكون المقالة في هذا الأسبوع حول الوطن؛
ومضاً من التاريخ، ودفقاً من تعبير عن حُبِّه.
ما حدث عام 1351هـ/1932م من إعلان توحيد مناطق الوطن تحت اسم المملكة العربية السعودية كان تتويجاً سياسياً مُوفَّقاً لإنجاز عظيم أعاد إلى تلك المناطق وحدتها بقيادة الملك عبدالعزيز، رحمه الله تعالى. ومسيرة توحيد الوطن ممتدة الجذور تاريخياً. وكانت بداية انطلاقتها تلك المبايعة المباركة التي تَمَّت، عام 1157هـ 1744م بين الشيخ محمد بن عبدالوهاب والأمير محمد بن سعود، أمير الدِّرعية حينذاك. وكان الأساس، الذي بُنِيت عليه المبايعة، مناصرة كلمة التوحيد، والعمل على إزالة البدع والخرافات النافية لجوهر ذلك التوحيد. وبتلك المبايعة بدأت الدولة السعودية الأولى، التي تَمكَّنت من توحيد أكثر مناطق شبه الجزيرة العربية، ابتداء بمنطقة نجد التي كانت النزعة الاستقلالية لدى أمراء بلدانها قد رسَّختها قرون من التفكك السياسي. وكان ذلك أكبر الأسباب في إطالة وقت عملية توحيدها بحيث استغرقت أكثر من 40 عاما.
ولقد أجاب أكثر النجديين نداء الإمام تركي بن عبدالله، مؤسس الدولة السعودية الثانية. فيما بعد؛ وذلك لأمرين: الأول إعجابهم بصفاته القيادية، والثاني ما عرفه آباؤهم من أمن في عهد الدولة السعودية الأولى. وبعد عشر سنوات من نهاية الدولة السعودية الثانية بدأ الملك عبدالعزيز خطوته الأولى لإعادة توحيد الوطن. وكان مما ساعده في مسيرته التوحيدية بعد توفيق الله ما كان يَتحلَّى به من صفات قيادية عظيمة من أبرزها: التديُّن؛ دعوة وسلوكاً، والكرم والشجاعة المُتَّزنة الواعية، وحسن التخطيط الحربي، وقوة الإرادة وحرصه على الاستشارة، وعمق معرفته بقومه ووعيه لتاريخ أسلافه. وإضافة إلى تلك الصفات كانت هناك ظروف استطاع بفكره الثاقب أن يستفيد منها حتى حَقَّق ما حَقَّق من نجاح.
كان أكثر النجديين يُكنُّون وداً لآل سعود، الذين ذاقوا على أيديهم ثمار الوحدة أمناً. وكانت تلك الأكثرية ذات علاقة غير وُدِّية بحاكم نجد حينذاك، الأمير عبدالعزيز ابن رشيد. ولَعلَّ هذا وذاك يفسران تَمكُّن الملك عبدالعزيز من توحيد أقاليم نجد ما عدا إقليم جبل شَمَّر مقر آل رشيد بعد عامين فقط من إعادته الرياض إلى الحكم السعودي عام 1319هـ1902م. وإذا كان ذلك هو الحال بالنسبة لأكثر أهل نجد فماذا عن المناطق الأخرى؟
كان الوجود العثماني في منطقة الأحساء والقطيف بات ضعيفاً جداً بحيث اختلَّ الأمن فيها وأصبح أهلها يَتطلَّعون إلى قوة تعيد إليهم ذلك الأمن الذي عهدوه في ظِلِّ الدولتين السعوديتين الأولى والثانية. وكان أن اتَّصل عدد من أهل تلك المنطقة بالملك عبدالعزيز، فكانت النتيجة أن فاجأ القوات العثمانية هناك وسيطر على مقاليد الأمور.
وهكذا وُحِّدت منطقة شرق الوطن مع ما سبق أن وُحِّد من أقاليم نجد؛ وذلك عام 1331هـ 1913م.
وكان الملك عبدالعزيز نتيجة وعيه لتاريخ أسلافه قد أدرك صعوبة ضبط البادية أمنياً، وأن من أكبر عوامل تحقيق ذلك الضبط استقرارهم. وأدرك بفكره الثاقب، أن اقتناعهم بالاستقرار لن يَتحقَّق إلا على أساس ديني. ومن هنا جاءت فكرة ما أصبحت تُسمَّى حركة الإخوان. واقتنع من البادية؛ زعماء وأفراداً، من اقتنعوا بالاستقرار في أماكن سَمَّوها “الهجر”. وأصبح الإخوان قوة عظيمة في يد الملك عبدالعزيز كان لها دورها الكبير في استكمال توحيد مناطق الوطن بين عامي 1336 و1344هـ. وكانت أول برهنة على تلك القوة العظيمة، ما حَقَّقته من نصر على قوات الملك حسين بن علي، التي كانت بقيادة ابنه عبدالله في معركة تربة سنة 1337هـ/1919م.
وكانت منطقة عسير تحت حكم الدولة العثمانية. ولما انسحبت قواتها من جزيرة العرب نتيجة هزيمتها أمام قوات الحلفاء في الحرب العالمية الأولى أصبح حسن بن عائض، الذي كان مُتصرِّفاً فيها، حاكماً لها. وحدث خلاف بينه وبين بعض زعماء قبائلها، فحاول الملك عبدالعزيز أن يَتوسَّط لِحلِّه، لكن ابن عائض لم يرض بوساطته. وكان عدم رضائه أحد الأسباب التي أَدَّت إلى إرسال جيش عماده الإخوان بقيادة الأمير عبدالعزيز بن مساعد، فأدخل المنطقة تحت الحكم السعودي عام 1338هـ .
وفي عام 1340هـ/1921م تَمكَّن الملك عبدالعزيز من إكمال توحيد أقاليم نجد تحت رايته، وذلك بتوحيده إقليم جبل شَمَّر مقر حكم آل رشيد. وفي عام 1344هـ/1925م تَمَّ إكمال توحيد منطقة الحجاز مع ما سبق أن وُحِّد من أقاليم الوطن ومناطقه.
وكان كاتب هذه السطور ممن حاولوا التعبير عن إعجابهم بإنجازات الملك عبدالعزيز، رحمه الله، وحُبِّهم للوطن في أبيات ضمن عدة قصائد. ومن تلك الأبيات:
لي موطن يَتسامَى عِزَّة وعُلاً
إن سابقت لبلوغِ المَجد أَوطانُ
تاريخه سِفْر أعلامٍ صحائفه
على فضائل ما شادوه برهان
يَفوح من سيرةِ الهادي وشِرعتِه
عِطْراً نَسائمه عَدلٌ وإحسان
أقامها دولة عَزَّت بدعوتها
أن لا يَذل لغير الله إنسان
والناس في ظِلِّها الحاني سَواسيةٌ
لا شيء إلا التُّقَى للفضل ميزان
وما اختفى لعظيمٍ راشدٍ عَلَمٌ
إلا بدا من به الأَعلام تزدان
وانشقَّ من كَبِد الصحراء فارسها
يَحدو فَتنقاد أَبطالٌ وفرسان
ويَرفع الرَّايةَ الخضرا مُوحِّدةً
فَتستجيب رُبىً عَطشَى و وِديان
وتَنتشي طَرباً نَجدٌ مُعانقةً
للساحلين وتُبدي الحُبَّ نجران
مَرابعٌ رَحَبات المسجدين لها
تَاجٌ تتيه به فخراً وعنوان
ومن تلك الأبيات:
ومُليكةُ القلبِ الوَلُوعِ مَليحةٌ
ما طُوِّقت خِصراً ولا رُشِفت لَمَى
عُذْريةٌ حُلَل الطهارة ثَوبُها
ما أَروعَ الثوبَ النَّقيَّ وأَعظما!
وَطَنٌ تَضمُّ المَسجدين رِحابُه
أَرأيتَ أطهرَ من ثَراه وأَكرما؟
وعلى الشريعةِ أُسِّست أَحكامُه
غَرَّاء أَنزلها الإلهُ وأحكما
ومَظاهِرُ الإنجاز أصدقُ شاهدٍ
عَمَّا بناه حضارةً وتَقدُّما
وأنا الذي أَرواه فيض نَمائِه
وزَها بما قد شِيْد فَخْراً وانتمَا
ومن الأبيات باللهجة المحلِّية:
يقول من موطنه حبّه بوسط القلب مطبوعْ
تفديه روحي وكل الِّلي يضمّ حماه غالي
إلى شرب ضامري من ودّه السلسال قُرطوع
دبّ الحَيَا في فؤادي وانتعشت وطاب فالي
أفديه حَزَّات ريفه فِدوتي له حَزَّة الجوع
واحس بالمرّ في حلقي وانا بمغناه حالي
وحقٍ على كل سكان الوطن تابع ومتبوع
تبادل النصح والشورى إلى حَلّ المجالى
الكلّ يدلي بدلوه واحترام الرأي مشروع
ما دام قصد الجميع المصلحة باوَّل وتالي
على أن من صفات الملك عبدالعزيز الفذة سعة أفقه في نظرته الأمور الحضارية المستجدة. فكان ما كان من اقدامه على تَبنِّي خطوات رائدة نقلت الوطن إلى مرحلة تأسيس حضاري آتى أُكلَه في مختلف جوانب الحياة، وما كان اهتمامه بأمور بلاده الداخلية، توحيداً وتحقيقاً للأمن ودفاعاً عنها ونهضة بها، ليشغله عن الاهتمام بقضايا الأُمَّتين العربية والإسلامية. ذلك أنه وهو العربي المسلم أدرك أن هذا الاهتمام واجب تُمليه أُخوة الإيمان وواقع المصير المشترك.
وإذا كان الحديث عن اليوم الوطني لبلادنا العزيزة حُلواً شيقاً؛ فإن المرء لا يملك إلا أن يحمد الله على ما تَحقَّق من انجاز. وأن يرحم من قاد مسيرة توحيدها، ووضع الأسس لما أصبحت عليه من تَقدُّم ونجاح.