كلما تطورت حياة الإنسان زادت حاجاته، فإنسان اليوم له من متطلبات الحياة ومقوماتها ما يفوق بكثير إنسان الأمس. ولا شك أن توسع حاجات الإنسان هي محدد مستوى رفاهيته، فحاجات الإنسان المرفه في السويد تختلف عن حاجات إنسان البوشمان في صحاري كالاهاري.
والرفاهية مفهوم نسبي تحدده تصورات المجتمعات عن أفضل الأوضاع الملائمة لراحة الإنسان وفق تصور معين وليس بالضرورة وفق حاجة الفعلية، وهي تصور مدرك اجتماعيا قبل أن تكون محددا سلوكيا. وقد يقتني الأفراد عادة أشياء معينة، أو يتبعون سلوكيات خاصة ليس لكونها ضرورة لراحتهم ولكن لمجرد أن يظهروا للمجتمع أنهم مرفهين. والإنسان هو الكائن الوحيد المحتكر لمفهوم الرفاهية، وينفرد في أنه يستهلك أكثر بكثير مما يحتاج وينتج، وهو الكائن الوحيد الذي جعل من قتل الكائنات الأخرى ضرورة لرفاهيته، بل إنه جعل من ذلك طقوساً رياضية يمارسها في المناسبات من أجل متعة القتل فقط.
والرفاهية قد تكون معنوية وغير مادية، أي أن الفرد يجد راحة نفسية معينة من نظرة المجتمع له بشكل معين، وقد يسعد أحيانا لإبدائهم الخوف منه أو التذلل له ويرى ذلك جزءا مهما من رفاهيته. وقد يحتكر حاجة اجتماعية لرغبته في أن يتميز عنهم وأن ينظر له كذلك، ولذلك اخترعت جميع الثقافات قديمها وحديثها ألقاب تبجيل خاصة بها، وتكاد تكون ألقاب التبجيل من أهم المتلازمات الكونية لظهور الثقافة البشرية. ولذلك أيضا ارتبط البذل في المجتمعات بالنبل، فالنبيل قد يجزل العطاء ليبقى كذلك نبيلا لا رغبة في نفع للممنوحين، وليس إثرة للمحتاجين، وكما قال الشاعر: وتأتي على قدر الكرام المكارم.
والعطاء، مهما كان نوعه: زكاة، صدقة، أو تبرع، أو هدية ظاهرة أنثروبولوجية مهمة في تحديد وفهم طبقات المجتمع ونوع العلاقات التي تربطها. فالعطاء له أطراف تربطهم علاقات من نوع خاص يعبر عنها بالشيء الممنوح. فالعطاء دائما يأتي من شخصية أكبر مكانة إلى متلق أقل مكانة. وفي بعض الثقافات تصنف الأرزاق على أنها عطاء من الإله أو الحاكم لاسيما إذا ما وجد ترابط عضوي بين المفهوم الإلهي ومفهوما العرف المجتمعي للحاكم، بحيث يكون الحاكم ظل الله في الأرض كما ادعى فرعون، وحمورابي، والكنيسة في القرون الوسطى. وقد يرتبط العطاء بإرضاء الآلهة لإدامة الرفاهية. وهناك ظواهر اجتماعية أخرى مرتبطة عضوياً بمفاهيم العطاء كالزواج، والإنجاب، وتكفير الخطايا، وعطايا مناسبات الأعياد وغيرها.
والأمر ذاته ينطبق على الحاجات أيضا فهي مرتبطة ارتباط عضوي بالرفاهية. فعلماء علم الاجتماع النفسي، وهو علم يعنى بالتصورات والمدركات العامة للمجتمعات التي لها تأثير وقوة ضغط غير مادية تؤثر في المجتمع، يرون أن نظرة المجتمع الخاصة وتصوراته هي المحدد الرئيس لحاجاته المادية والمعنوية الفائضة عن حاجاته الأساسية للبقاء من طعام أساسي ومسكن بسيط. وإذا اعتبرنا الترف هو ما يزيد عن حاجات الفرد الأساسية فالإنسان الحديث يعيش على كم هائل من أمور الترف. وكثير مما يعد في ثقافات معينة ترفا ينظر له في أخرى على أنه حاجة. بل وفي المجتمع الواحد يختلف مفهوم الترف والحاجة من طبقة لأخرى. والترف الذي يعايش الإنسان فترات طويلة قد يتطور تدريجياً لحاجة لا غنى عنها. وقد تنتقل مجتمعات معينة من مجتمعات حاجة لمجتمعات ترف، والعكس. وارتبط تعريف الحاجة أيضاً تبعاً للتركيبة الاجتماعية للمجتمع، فالقبيلة تجمع أموال من أفرادها وتمنحها بكرم ورضى لزعيمها كونه أكثر أفراد حاجة للإنفاق لحفظ سمعتها، وللمفهوم ذاته جمعت الضرائب للحكام عبر العصور ليبنوا القصور ويعمروا الموائد لحاجة إبراز هيبة الدولة.
وكلما وجدت حاجة معينة في مجتمع ظهر من يحاول تلبيتها سواء على المستوى الفكري أو المادي. فالخوف من الموت ومن المجهول، وهو من أقدم الظواهر النفسية التي واجهت الإنسان واحتاج لفهمها، أدت لظهور طبقة خاصة في معظم المجتمعات تقدم تصورات مختلفة مطمئنة للحياة بعد الموت، وتقدم مع ذلك تفسيراً جاهزاً لكل مجهول. وهذه التصورات مهما اختلفت في الشكل من مجتمع لأخر تتشابه في الجوهر. وقد بني على هذه الظاهرة كثير من الظواهر المادية كالمعابد، والتماثيل، والتشريعات، والطقوس. فمن حاجات بعد الموت عند بعض فرق البوذية، حاجة الرجل لزوجته ولذا فهي تحرق مباشرة بعد موته لتلحق به، وكان الفراعنة يدفنون أدواتهم ورموز عظمتهم معهم ليبعثوا نبلاء في العالم الآخر. وفي مجتمعات الرفاهية الحديثة حيث يجد الإنسان فسحة من الوقت للتأمل في ذاته تكثر أماكن الاستطباب النفسي التي تقدم خدمات مشابهة تبدد قلق الفرد وتبعد الضغط النفسي عنه.
وقد تؤثر البيئة الجغرافي على مجتمع ما فتفرز تنظيمات معينة تقسم الأدوار بين أفراد المجتمع بشكل دقيق. ومع تقسيم الأدوار تعاد عبر الأجيال صياغة الحاجات حسب هذه الأدوار. فصاحب الدور الأدنى هو عادة من يقدم جدهاً أكبر وتصنف احتياجاته على أنها الأقل, فجزء كبير من جهده يشاركه فيها أصحاب الأدوار الأهم الذين تكبر وتتوسع حاجاتهم وتقل جهودهم. وقد ارتبطت النشاطات الاقتصادية في المجتمعات بتلبية حاجات الإنسان الأساسية، وهي حاجات تحددها أمور ثقافية ومفاهيمية، فلو كانت حاجات الأفراد تسد بشكل موضوعي لما احتاج من الملبس والغذاء والمأوى إلا أيسره، ولفقد الذهب، والماس، والحرير بريقها لوجود بدائل أخرى لها، ولكن قيمة مثل هذه الأشياء تستمد من قلتها، وليست فائدتها ومن قيمتها في تحديد الأدوار التي تقوم بها بعض فئات المجتمع، فصاحب الدور الأعلى في المجتمع هو من يحق له الاحتفاظ بالأندر والأنفس. وإذا تعلق الأمر بأمور تحدد فيها قيمتها من وفرتها، كالأرض والزرع، فهو أيضا يحصل على نصيب الأسد منها.
قد ظهرت التجارة، والزراعة، والصناعة بأشكالها الاقتصادية الحديثة لتلبية حاجات الإنسان المختلفة، وارتبطت بها إعادة تنظيم الأدوار في المجتمعات من حقبة لأخرى، وبرز الاحتكار بأشكاله المختلفة: الاحتكار الرحيم الذي يسعى للتنظيم، والاحتكار الظالم الذي يسعى للاستئثار، كأشكال مختلفة من توزيع الأدوار وكلما توسعت حاجات الإنسان تجددت معها إعادة صياغة المجتمعات. فتطور الأنشطة لاقتصادية الحديثة أدى إلى إضعاف دور الأنشطة الاقتصادية التقليدية القائمة على ارتباط العمل باحتكار الوساطة ما بين الحياة وما بعدها، وانتقلت السلطة بعد الثورة الصناعية من الإقطاع للطبقة الصناعية. وكلما تطورت قوى الاحتكار ازدادت قوتها في التأثير على إعادة صياغة الأدوار، فالعلاقة جدلية بينهما. ومع امتلاك قوى الاحتكار لوسائل تأثير مجتمعية كالإعلام تمكنت من خلق تصورات جديدة لحاجات جديدة للمجتمع من أجل أن تتحرك لتلبيتها.
فتطور أدوات الإعلام الجمعي المعولم مكّن بعض الكيانات الصناعية الكبرى من التأثير على مجتمعات أخرى خارج حدودها لتكييفها وخلق حاجات جديدة فيها لمنتجاتها لتتحرك لتلبيتها فيما بعد. وتدفع الشركات المعولمة مبالغ طائلة لتعميم معايير وتعزيز مفاهيم الحاجات في المجتمعات المختلفة لتوحيدها وتقييسها وتلبيها بشكل معولم أيضا. فالكلام عن الغزو الثقافي الغربي هو تصور مختلف لغزو اقتصادي معولم يهدف لربط الشعوب بمفاهيم موحدة للحاجة والترف. فالغرب لا يهتم أي معتقدات تتبع الشعوب ما دامت تستهلك منتجاته المعولمة حسب معاييره. ولا يكترث بمذهب من يأكل الهمبرجر، أو ثقافة من يشتري الآي فون، أو كيف يمشي من يلبس حذاء نايكي. وقد خلقنا في مجتمعنا اليوم حاجات وهمية لم تكن موجودة في السابق، فظهرت موضة الماركات، والتفاخر بالسيارات، والمباني الخ.. حاجات خلقتها الدعاية الإعلامية القوية لمنتجين دوليين، بمشاركة الوكلاء المحليين، وتم استغلال المواطن من أجل السعي تلبيتها على أنها حاجات أساسية معنوية. ولو نجحنا في توعية الناس بالحاجة الفعلية لما يستهلكون لنجحنا في إعادة التوازن لبعض جوانب مجتمعنا الاجتماعية والنفسية.
latifmohammed@hotmail.comTwitter @drmalabdullatif