من سمات الجيل الإعلامي الرائد المؤسس لملامح الإعلام السعودي، وصانع بصمته الأولى الصبر وتحمل متاعب المهنة والمكابدة في بناء الذات وظيفيا وتعليميا على الرغم من قسوة الحياة وشظفها آنذاك وشح مصادر الدخل، والإصرار على تحقيق الهدف وهو النجاح الذي لا يتوقفون دون تحقيقه بمزيد من العمل والحصول على الشهادات العلمية حتى ولو بعد عمر طويل من الوظيفة كما هو الإعلامي الكبير بدر كريم الذي حصل على الدكتوراه في مرحلة متأخرة جدا؛ مما يؤكد أن الغاية في هذا المسعى للعلم فقط، لا للمكاسب الوظيفية الزائلة، ومثله آخرون أصروا على تحقيق الهدف في بداية الطريق أو في منتصفه أو في آخره، ومنهم مثلا الدكاترة: عبد الرحمن الشبيلي ومحمد كامل خطاب، وحسين نجار، وعلي النجعي، وعلي الخضيري، وعايض الردادي وعبد الله الشايع وغيرهم، وأعتذر ممن لم تسعفني ذاكرتي بإيراد أسمائهم، وإنما أردت أن أدلل على قوة عزيمة وجلد وصبر الجيل الأول والثاني من الإعلاميين على تحقيق أهدافهم وهم يزاولون أعمالهم - في الأغلب - فيجمع الدارس بين مشقتين ومسؤوليتين، ويكابد في طريقين، ولهذا تفوق كثيرون من الرعيل الأول لوجود هذه الخصائص في ذواتهم، أما من استغل الإعلام للبروز والشهرة فحسب فقد كان في الصورة حين كان موظفا وغاب أو اختفى بعد أن أحيل على التقاعد، وهو ليس نقصا أو قصورا في مواهبه وقدراته، لكنه نسي أو أنسته الزحمة التي يعيش فيها تحت الأضواء أن لكل شيء نهاية، ولابد يوما أن يفقد وهج الوظيفة ويبقى وهج علمه وموهبته الأدبية أو الكتابية أو الإعلامية إن أحسن استغلالها.
المؤسف أن الإعلام - وربما في كل دول العالم - خادع، مراوغ، مضلل، ليس للرأي العام ؛ بل لمن يزاوله ويعيش مستمتعا في أكنافه، فهو يمنح الإعلامي رؤى سراب وأحلام يقظة حتى إذا صحا من نشوته الطويلة لم يجد في يديه شيئا مما كان يحلم به إلا ما زرعه هو، لا ما منحه إياه الوهج الإعلامي، ولذا وجدنا على الطرف الآخر حالات لإعلاميين مميزين ورائعين خدموا الإعلام بتفان وإخلاص ونسوا أنفسهم ولم يتنبهوا إلا بعد أن ألقاهم التقاعد والتقدم بالعمر بعيدا دون أن يحتفظوا بمقومات ردع ذاتية تحميهم من عواصف الحياة، وهؤلاء يشكلون النسبة الكبرى من الإعلاميين الذين يلقون بثقتهم وأمانهم في أسمائهم اللامعة على أنها كفيلة بتحقيق أي مطلب أو تذليل أية صعوبات في الحياة، وهو حلم مثالي، فنحن نعلم أوضاع الكثيرين منهم بما لا نحتاج معه إلى ذكر أسمائهم، ونعلم العوز وضغط الحاجة والراتب التقاعدي البائس لكثيرين، مما يستدعي تكوين رابطة أو هيئة لكل الإعلاميين تطالب بحقوقهم في المسكن والمعيشة والعلاج بعد العمر الطويل الذي أفنوه في خدمة وطنهم، بحيث لا يصبحوا فرس سباق بعد أن يشيخ تطلق عليه رصاصة الرحمة !
الأستاذ سليمان العيسى - رحمه الله - من ذلك الجيل الذي تعددت مواهبه، وهو وإن لم يسع إلى إكمال دراساته العليا كما فعل من سبقه ومن عاش معه أو أتى بعده إلا أنه استخدم ذكاءه الذاتي وصبره واطلاعه وعلاقاته الجيدة ومثابرته وتكيفه مع كل العواصف التي تهب أحيانا على التلفزيون في أية مرحلة وزارية أو إدارية إلى أن وصل إلى مرتبة كبير المذيعين، ومنها بدأت انطلاقته الثانية بعد التجربة الأولى في الصحافة والتعليق الرياضي، ليودع تلك المرحلة ويواصل بصعود سريع مشواره الإعلامي الرسمي متصديا بثقة للمناسبات الرسمية للدولة، حتى اكتسب ثقة الملوك الثلاثة خالد وفهد رحمهما الله وخادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله متعه الله بالصحة والعافية، ووصل إلى أن صار المستشار الإعلامي في الديوان الملكي بمرتبة معالي.
الحق أن أبا محمد يتمتع بصفات نادرة أهلته للصعود السريع في العقدين الأخيرين إلى مراتب قيادية عليا وقد لمست ذلك في شخصيته عن قرب، ومنها الدقة البالغة في العمل، فهو يشرف بنفسه على كل صغيرة وكبيرة في أية مناسبة، حتى شريط المناسبة لا يوصي به أحدا ؛ بل يتولاه بنفسه من الاستعداد للمناسبة بترتيباتها الأولى، والإشراف على الصوت والصورة والتمديدات الكهربائية إلى توزيع الكاميرات واللقطات إلى صحة الأسماء والألقاب الوظيفية إلى أن يسلم الشريط بنفسه إلى المونتاج ويقف الساعات الطوال لحذف الزوائد أو ما وقع فيه خطأ عابر أو ما هو غير ضروري، ثم يتابع النشرة الإخبارية إن لم يكن مشاركا في قراءتها أو برنامج المناسبة اللاحق لها ليرى على الهواء كيف ظهرت المناسبة وهل وقع ثمة ما لم يكن متوقعا أو محسوبا. ومن صفاته التي عايشته وخبرتها عن قرب خلال ثلاثين عاما من العمل الإعلامي قدرته على التنازل إلى أن تمر العاصفة وتهدأ، فقد انفعل أحد الوكلاء السابقين للتلفزيون مرة على موقف ما من المواقف واستدعانا جميعا، وكان ذاك الوكيل سامحه الله يتمتع بكبرياء عجيبة وأخذ يهدر ويلقي بكلمات قاسية علينا جميعا وأكثرها على سليمان الذي جاء العاشرة صباحا بعد استدعائه على عجل وتبين ذلك من خلال عدم استعداده الاستعداد الذي نعلمه عنه دائما، ولكنه استمع بإنصات ودون مقاطعه، وأمن على كلام الوكيل وامتص غضبه وخرجنا جميعا ونحن أهدأ مما دخلنا بحكمة ورباطة جأش وعقلانية أبي محمد.
رحمه الله وأسكنه فسيح جناته، وأقدم خالص العزاء لأسرته الكريمة وأصدقائه وأحبابه « كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذي الجلال والإكرام «.
moh.alowain@gmail.commALowein@